كان "ابن اياس" مؤرخ مصر فى العصر الوسيط ينتهى عامة بجملته الشهيرة "وقد خرجت هذه السنة على خير" . أى خير؟! ... أنا شخصياً لا أعرف.. عام مضى زادت فيه المجاعات، وطال شح النيل، وكثرت مظالم الفقراء وتجاوز حكام المماليك ما أمرهم الله به من مباشرة العدل والحكمة. فى مثل تلك السنوات "923ه - 1517م" كان سليم شاه السلطان العثماني قد غزا مصر، وفتحها بسيفه، وجاء بجيوشه فقتل من أهلها مائة ألف إنسان حتى ان مصر أقامت أربعين سنة وهى خراب، ليس بها ديار ولا نافخ نار. يقولون إنه بعد ان غزاها خرج منها وقد حمل معه بطريق البر على ألف جمل أحمالا من الذهب والفضة والتحف والسلاح والصينى والخيل والبغال وأخذ معه من البشر جماعات الحرف وتجار الأسواق البالغ عددهم ذلك الوقت 1800 نفس. هكذا تؤكد الرواية أن التاريخ يروى أن مصر قديمها ووسطها وحديثها منذورة دائما الغريب وللغيه وللظالم، - وهى لمن غلب من حكام فاسدين جاءوها بالعنف مرة وبالمصادفة مرة، هم أخلاط من البشر الفاسدين، ومن النفايات المغامرة، ومن أراذل الآدميين الذين جاؤوا من الحضيض فارتفعوا بسببها إلى العلا، ومجد التواريخ، ذلك البلد الطيب، وشعبه سليم النية الحانى على زراعته وفنونه. هكذا كان سليم الأول السفاح العثماني عندما غزا مصر وانتصر على سلطان المماليك قنصوة الغورى، وهزمه أولا فى مرج دابق بالشام، وبعد ذلك أجهز عليه في الريدانية بمصر. أتخيله، قنصوة الغورى وقد تخلى عنه جنوده، وهو يقف وسطهم وبنادى: "يا اغوات هذا وقت النجدة" فلم يسمعوا له وصاروا ينسحبون من حوله وهو يقول مستنجدا بأرباب الطرق الصوفية "أدعو الله بالنصر فهذا يومكم"، ولما لم يجد مجيبا ركب جواده وحيدا وتوجه ناحية الميدان، وحين أدركته عساكر أب عثمان أصابه الفالج فأبكل جنبه وأرخى فمه وسقط عن جواده وقد طلع من فمه خيط من الدم. مات سلطان المماليك فى قلب الميدان بعد ان قهره جنوده، وقبل السلطنة نائبه البطل "طومان باى" وقد أقسم الجنود على المصحف أن ينصروه، لكنهم تراجعوا عن وعودهم له. لم يعرف اليأس طريقا لقلب "طومان باى" فأقام الحصينات، وقاوم العثمانيين فكسرهم، وانتصر عليهم لكن ابن عثمان يجمع جنوده ويهزم "طومان باى" الذى لا يعترف بالهزيمة فيجمع الشعب حتى تأتى كسرته الأخيرة ويقبض عليه ويسجن بقلعة صلاح الدين. روعت القاهرة يوم أعدامه، وأحضروه راكبا حمارا في يوم من أيام الخماسين وكانت عاصفة من الرمال التى جاءت من الجبل تغطى القاهرة بالحزن.. شق "طومان باى" طريقه حتى باب زويله عند جامع المؤيد شيخ، ورآهم ينصبون له المشنقة ويحرضون الجبال فوق البرج الغربي للسور تحت مئذنة المؤيد شيخ، هبط من فوق ظهر حصانه، وكان طويل القامة بهيا، أحمر الوجه ذى وجاهة لا تليق ببطل مقاوم.. ارتاع الناس وأطلقوا العويل والبكاء، تأملهم وهتف بهم "أقرؤوا لى الفاتحة" ثلاث مرات"، وبسط الناس أيديهم يرتلون بصوت عال الفاتحة، تقدم مهيبا، مرفوع الهامة، وقال للجلاد رابط الجأش "أعمل شغلك" فلما وضعوا الحبل حول رقبته وشدوه انقطع وسقط الأشرف "طومان باى" على عتبة باب زويلة، كبر الناس وعلا صياحهم، فأحضروه ووضعوا الحبل حول رقبته مثل الأولى فانقطع الحبل ثانية. فاشتد هياج البشر وعمت حالة الغضب الجميع، وتهيأ الجند، وشع أحساس العامة بضوء لا يعرفون بمصدر سطوعه، إلا ان الثالثة كانت القاضية، وارتفع آخر المماليك العظام معلقا من رقبته، مكشوف الرأس وعلى جسده كسوة زرقاء من الجوخ وبقدمه خف أحمر، فلما قضى صرخ الناس عليه صرخة عظيمة فقد كان من أنبل السلاطين الذين قاوموا الغزاة، وتلك كانت أحوالها فلم يحكمها من أرباب المصالح والمفسدين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.