لا تزال القيمة الإنسانية العظمى - الأبوة - هي حديثنا، وستبقى الشغل الشاغل لمن بعدنا.. كما كانت ذات أهمية عند من سبقنا. نماذج متنوعة من الآباء.. وتصرفات قد تبدو غريبة نحو الأبناء.. الأب بروح الأب مع أبنائه.. بنظرة الأب مهما كان عددهم عنده ومهما بلغت أعمارهم، بفكر الأبوة الذي قد يبدو ساذجاً في بعض مواقفه معهم. النقاء.. الصدق.. العفوية.. بل الفطرة البريئة.. والحب الغامر.. والشعور الأبوي الدافق. ** ** ** حكى لي أحد الأصدقاء العرب.. وهو أستاذ كبير في العلوم في إحدى الجامعات الغربية المرموقة قائلاً: إن والده كان يشعر - وهو في رتبة لواء - بأنه لم يأخذ من العلم ما كان يطمح له، وأن التحاقه بالعسكرية في بلده العربي - آنذاك - كان ضماناً للوظيفة، وسرعة الحصول عليها لحاجته المادية. لذا فقد حوَّل طموحه العالي - الذي لم يحققه - إلى أبنائه.. كان محدثي هو الابن الأكبر.. وذكر أن والده كان دائم القول: (قُم ذاكر يا ابني) يتردد هذا الأمر في كل يوم، وفي كل مراحل دراسته. إني بأحاديثي عن الأبوة أقتبس من التعاليم الإسلامية السامية كل ما يحدد معالم التربية التي يجب أن ينشأ عليها الأبناء، وأن تكون الأبوة هي مصدرها، وموجهها، وراعيها. ولنا في ذلك أنموذج عظيم هو وصية لقمان الحكيم لابنه، وكيف وضع الأسس الحقيقية للفلاح، والنجاح، والسعادة له ومع أنه قد أنهى مذاكرته اليومية.. فإنه كان يستجيب لطلب والده، ويعود للاستذكار، إرضاء له. وتتقدم به الأيام.. وقد صار هذا الابن أستاذاً جامعياً مرموقاً في جامعة غربية هي إحدى أشهر الجامعات في العالم. ويشاء الله أن يأتي إليه والده للعلاج.. فأدخله المستشفى هناك، وجلس بجانبه طيلة شهرين كاملين.. ومع مرضه كان لا يكف الوالد عن سؤاله (أشعر بأنك لم تذاكر اليوم) فيرد عليه الابن الأستاذ الدكتور قائلاً: يا والدي: أنا الآن أستاذ جامعي، وأبشرك بتفوقي، ونجاحي، وأنني الآن أعلِّم الآلاف من الطلاب الجامعيين. لكنها الأبوة الطيبة.. ويستمر محدثي قائلاً: أما أخي الثاني الذي كان والدي يردد عليه هذا الأمر مثلي حين كان طالباً فإنه كان يجيب والده قائلاً في كل مرة (نعم.. ذاكرت) فيرد الوالد قائلاً: (لكن هل.. حفظت كل العلم..) فيرد الولد على والده قائلاً: «نعم.. حفظت العلم كله». وأما الأخ الأصغر.. فكان يرد على أبيه حينما يقول (هل حفظت كل العلم يا ولدي) قائلاً: (وهل أنت حفظت كل العلم يا والدي)؟ ** ** ** ثلاثة إخوة يفصل عن كل واحد منهم زمن قصير، لا يزيد على خمس سنوات، لكن الجواب يختلف باختلاف كل واحد منهم.. نتيجة لاختلاف الأجيال، وقد رأينا كيف كان جواب الأول ثم الثاني ، وكيف كانت إجابة الثالث.. كما أن هذه القصة تثبت أن الابن ابن صغير في نظر أبيه دائماً، يحتاج للرعاية مهما كبر، هذا هو شعور الأب.. إنها الأبوة التي لا تكف عن الرجاء، والدعاء للأبناء بالخير والسعادة والفلاح، ديناً ودنيا. ** ** ** إني بأحاديثي عن الأبوة أقتبس من التعاليم الإسلامية السامية كل ما يحدد معالم التربية التي يجب أن ينشأ عليها الأبناء، وأن تكون الأبوة هي مصدرها، وموجهها، وراعيها. ولنا في ذلك أنموذج عظيم هو وصية لقمان الحكيم لابنه، وكيف وضع الأسس الحقيقية للفلاح، والنجاح، والسعادة له، جاء ذلك في قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيّ لاتشرك بالله ...) إلى آخر الآيات التي اشتملت على عناصر النجاح، والفلاح والسعادة في الدين والدنيا والآخرة، والتي تتمثل في: توحيد الله تعالى، وطاعة الوالدين، إلا فيما ليس من التوحيد في شيء: وإقام الصلاة.. والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على البلاء والتواضع، وترك الغرور والكبرياء، وترك الزهو والفخار، والصلف والخيلاء، وخفض الصوت عند الكلام.. واللين في كل تعامل.. وغير ذلك كثير جميل. ** ** ** قيم أخلاقية عليا كثيرة حملتها لنا وصايا لقمان لابنه، وهي ما يجب أن ننفذه نحن الآن في تربية أبنائنا.. بل إننا في حاجة ماسة وملحة لترسيخ تلك المبادئ الأخلاقية العظيمة بحكم أن الأمور قد تغيرت من حولنا، وأن التحديات في عصرنا قد صارت كالفتنة المنتشرة. إن الذي يسعدني سعادة غامرة - مثل سائر أهل البصيرة من الناس - هو أن الكثيرين من الآباء متمسكون بنهج لقمان مع ابنه.. بل مع ما جاء من القيم الإسلامية من بعده. ** ** ** إن هذا هو ما يبقي جميل الحياة وحسن التربية بين الجميع؛ فمن شبّ على شيء شاب عليه، وأبناؤنا الصغار كابن لقمان إن هم طعموا ذلك الغذاء الروحي السلوكي ونهلوا منه مع خطوات شبابهم شريطة أن يكون الأب متحلياً بما يطالب به، عارفاً بحقيقة ما يدعو إليه. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدّنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد..