مهما قيل عن التعاطف الإنساني الذي يتّصف به بعض البشر، فإن الوصول إلى فهم عميق لهذا الشعور الأصيل يتطلب وعيًا وتجربة ورؤية متاحة -فقط- لعدد قليل من الأشخاص. إن الطريق إلى التعاطف يبدأ بالشفقة مرتكزًا على الحب الأساسي للإنسان وللحياة لكي يصل المرء بذلك إلى قيمة أخلاقية عالية من درجات الخير والحق والجمال تتمثل في التعاطف، الذي تتجسّد - من خلاله - رؤيتنا للآخرين وكأنهم نحن. وإذا كنت أتعاطف معك، فمعنى ذلك أنني أعيش موقفك وأتمثل كيانك بأكمله وأغوص في تفاصيل حياتك؛ ليس على سبيل التقمّص الخيالي فحسب وإنما على مستوى الوعي العقلي بالتجربة الإنسانية. وبذلك تتحقق لي إمكانية هائلة لمعرفة شخصيتك، وبذلك أستطيع فعلاً أن أفهم موقفك حق الفهم. هل نستطيع أن نصل إلى ذلك؟ هل يمكن لنا أن ندخل تحت جلد الشخصيات فنفهم البؤس والإحباط والذل والغيرة والألم واليأس والضياع والكبرياء والنشوة والعناد والعنف؟ ثم نفهم مايحيط بكل خصلة من خصال الإنسان من تداعيات سلوكية مرتبطة بالغريزة أو بالبيئة أو بالأخلاق؟ يقدّم لنا الروائي الروسي الفذّ، ديستوفيسكي، أفضل فرصة لخوض مثل هذه التجربة في الحياة. إن رواياته ذائعة الصيت، تعطينا أكثر من ذلك؛ فهي نموذج للإلهام الخلاق، وبوصلة للاستبصار العميق بالحياة، وهي كذلك كنز ثري للحكمة الخالدة. قرأت روايته "الفقراء" في الثمانينيات، ثم تابعت قراءة بقية أعماله إلى آخر ما نشره وهي الرواية الخالدة "الإخوة كارامازوف". له أسلوب ساحر يجعلك تجري معه وكأنك تسابقه، وتشعر بأنك في حالة لهاث حقيقي وأنت تتابع -مابين السطور- حركة الحياة وتطور الأحداث. كنت أقول وقتها إن قراءة كتب ديستوفيسكي تهبك من المعرفة والخبرة ما يُعادل قضاء أربع سنوات في الجامعة. وسنحت لي الفرصة منذ أواخر التسعينيات لتدريس أسلوبه في الكتابة لطلابي في الجامعة؛ لأن له أسلوبًا مميزًا في عرض الأفكار وربطها وتسلسلها، ويملك موهبة لغوية مذهلة في قدرته على التشخيص والوصف. وكانت ترجمة سامي الدروبي لأعماله معبّرة عن هذا المنهج الأسلوبي، وهي لاتختلف كثيرًا عن بقية الترجمات العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية. قال عنه الروائي الفرنسي أندريه جيد: «إن دوستوفيسكي يكتب بكل جوارحه، ومن الأحرى بكم أنتم أيها القراء أن تقرؤوه بكل جوارحكم». وبعد مرور مايزيد على عشرين عامًا من الالتصاق بأعماله ودراستها، عرفتُ أن قراءة أعمال ديستوفيسكي تهب من المعرفة والحكمة ما يفوق خبرة أربع سنوات في الجامعة؛ إنها تقدم لنا تجربة متكاملة عن الإنسان وفلسفة الحياة. ومع أن رواياته تتحدث عن مكان مختلف عن مكاننا وفي فترة زمنية سابقة، وعن شخصيات لها أسماء تبدو لنا غريبة، فإن تلك القصص تحوي لبّ خبرة البشر في هذه الحياة.