المسلم الأكثر إسلامية ليس هو المتماهي مع شكلانية خاصة، ولكنها رائجة، وليس هو الرافع لشعارات الإسلام على نحو علني، وليس هو الذي يتخم طرحه بالنصوص والمفردات الشرعية والمقولات التراثية، ويخدع الناس بهذا، دون وعي بمقاصدها وغاياتها البعيدة. الإشكالية الجوهرية في الحراك المتأسلم، ليست كامنة في نفيه واقصائه للآخر من خارج الدائرة الإسلامية فحسب، وإنما هي في نفي الهوية الإسلامية عن المجتمعات الإسلامية المعاصرة، من حيث رسالتها الحياتية التي تقوم بها؛ بوصفها لا تؤدي هذه الرسالة التي أنيطت بها من قبل الله - عز وجل - قد لا يكون هذا النفي صريحا في كل الأحوال، لكنه معنى كلي متضمن - بقوة - في مقولة الأسلمة ذاتها. الإسلام - كدين وكهوية وكتاريخ - تجيش به صدور مليار وربع المليار مسلم على وجه الأرض اليوم، وتتماهى تلك الأنفس المؤمنة به على أكثر من مستوى، ومع ذلك تدعي شريحة محدودة أنها هي التي تمثل الإسلام، وأنها هي الوكيل الشرعي الوحيد للدفاع عنه في كل ميدان، وأنها بمجرد رفعها راية التأسلم، فعلى السواد الأعظم أن يصغي لمقولاتها التي تؤديها بأبوية متعالية، تفترض الكمال الإسلامي فيها والنقص في غيرها، ومن ثم تطالب بالاستجابة التامة لكل ما تقول، دون تساؤل أو اعتراض، وإلا فهو اعتراض على الإسلام ذاته. ونتيجة للدعاية العريضة التي رافقت العمل الإسلاموي، ومهارته في الضرب على الأوتار المؤثر في وجدان الاجتماعي، فقد أصبح هناك تصور ضيق لماهية العمل الإسلامي الذي بدأ يأخذ طابع الدعوة الصريحة، دون غيرها من تمظهرات الفاعلية الإنسانية، وأصبح هناك جهل - أو تجاهل - لأي عمل ديني غير صريح، يدخل في الديني من حيث طبيعة الاستخلاف في الأرض. ومما عزز من هذه النظرة التي روجت لها الإسلاموية المعاصرة أن العاملين في الحقول الأخرى (غير الإسلاموية) يتراجعون في أكثر الأحيان أمام الاتهامات التي ترميهم بها الإسلاموية المعاصرة. إضافة الى كون العاملين في تلك الحقول - مهما كانت أهميتها وخطورتها لمستقبل الأمة - لا يستحضرون الغايات التعبدية في ممارساتهم التي تأخذ الطابع المدني الصرف في أهدافها القريبة وفي تمظهرها الآني. وإذا كان الإسلاموي ينفي الآخر المسلم من دائرة الميدان التعبدي الذي يحتكره لنفسه، بوصف حراكه عملاً تعبدياً خالصاً، وحراك الآخر دنيوياً معاشياً لا يلتقي مع الغاية التعبدية في قليل ولا كثير، فإن هذا النفي يتم بموافقة - لاواعية - من قبل الآخر غير الإسلاموي، وذلك حين يسلم له باحتكار العمل العام للإسلام، وحين يطرح عمله المدني الخالص، مقصوراً على غاياته الدنيوية الخالصة، دون طرح الغاية الاستخلافية على نحو علني، بحيث يقطع الطريق على الاحتكارات الإسلاموية للإسلام، مع التنبه - في الوقت نفسه - إلى عدم الوقوع في شرك الشعاراتية الإسلاموية عند الإعلان عن الغاية الاستخلافية. لاشك أن هناك شعوراً قاراً في عمق كل مسلم أنه من حيث الوجود متعبد لله في هذه الأرض، وأنه يمارس دوره الدنيوي لغاية أخوية تتجاوز هذا الوجود الإنساني المحدود. والإنسان - أي إنسان وليس المسلم فحسب - يدرك أن وجوده على هذا الكوكب الأرضي وجود عابر، بل وفي غاية المحدودية، خاصة من حيث وجوده الفردي لا من حيث الوجود الإنساني العام. وهذا الشعور بمحدودية الوجود الدنيوي ليس مقصوراً على المتدين الذي يؤكد كل آن زوال الحياة وفنائها؛ بغية الزهد فيها، بل هو شعور يتلبس الوعي الإنساني، ويحفزه لممارسة رد فعل متنوع - ومتناقض - على هذه الحقيقة القاسية. إعمار الأرض بالحياة، والرقي بمستوى هذه الحياة، والتوظيف الإيجابي لما سخر لنا في هذه الأرض، والاستفادة من ذلك بأقصى درجة ممكنة، كان من الممكن أن يتعارض مع محدودية الحياة، لو لم يكن هذا الإعمار فعلا تعبديا، يمارس الإنسان من خلاله جزءاً من غاية وجوده. لم نستعمر في الأرض لنزهد فيها، ولا لنتركها لغيرنا، وإنما لنمارس من خلال المعطى الدنيوي معنى وجودنا الإنساني، ولنبلغ بإنسانيتنا أقصى درجاتها، كسلوك يتغيا العبودية لله، في مآلاته العامة والنهائية. لم يخلق الله البشر لعبادته فحسب، او على نحو أدق، لم يخلق الله البشر لمجرد التسبيح والتقديس الذي نادت به الملائكة إذ قالت: «ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» وإنما كان الخلق لعبادة تتجاوز الطقس التعبدي الى عبادة الاستعمار في الأرض، من حيث هو اختبار لمساحات الاختيار الإنساني، تلك المساحات التي منحها الله - عز وجل - للإنسان، وبها امتاز عن بقية الخلائق التي تخضع للجبر لا للاختيار الحر الذي يمارس الإنسان من خلاله وجوده. الحصر الذي ذكره الله - عز وجل - للغاية من الوجود في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} يعني أن العبودية ليست مجرد الطقس التعبدي الموقوف، وإنما هي عبودية تنقسم الى قسمين: الأول: عبودية صريحة، وهي ما جاءت به الأديان كممارسة دينية خالصة تظهر في الطقس التعبدي. والثاني: عبودية متضمنة في معنى الاستعمار في الأرض، وإمدادها بالحياة كما وكيفا؛ و لهذا كان الإفساد في الأرض - بأية وسيلة، وتحت أي مبرر - نوعا من العصيان الذي يضاد معنى العبودية، وكان الانتحار - بما هو إنهاء قسري للغاية الوجودية - عصيانا في أعلى درجات العصيان. إذن، فجزء كبير من العبودية لله - عز وجل - يتجاوز الشعائر المعلنة والظواهر الدينية الخالصة التي يزايد عليها الإسلاموي، فالمهمة المدنية الخالصة التي تتغيا النهوض بالأمة خاصة، وإعمار الأرض عامة، مهمة مقدسة في حد ذاتها، حتى وإن لم تعلن طابعها التعبدي على نحو صريح. ومع أن الإسلاموية تطرح شمولية العمل التعبدي، وتحاول إدراج جميع الظواهر المدنية في سياق الأسلمة، إلا أنها تقوم بذلك وفق تصور خاص بها، تصور يديّن المدني، ويعطيه طابعاً شعاراتياً فارغاً من المحتوى العملي؛ بغية توظيف هذا الحراك إيديولوجيا دون عائد ذي جدوى. والنتيجة السلبية في مثل هذا الحراك تكمن في أن الأسلمة تصبح بحد ذاتها هدفا نهائيا أو شبه نهائي، وتغيب الغاية المادية النفعية في الظاهرة التي تجري أسلمتها. هل يعي الفاعل المدني الذي ينهض بمهمة مدنية لها دورها الواضح في خدمة الأمة أو في نهضتها المستقبلية المأمولة أنه يقوم بدور (إسلامي)، مهما كانت الشعارات الإسلامية غائبة عن ممارسته، هل يستطيع أن يقف وقفة صريح دون ممارسة الإسلاموي مزايدته عليه في عمله المدني، فضلا عن انتمائه؟. هل لابد أن يقوم الفاعل المدني برفع راية غير مدنية؛ ليؤكد أن الغاية النهائية دينية غير مدنية (أي غير مرتبطة بوجود مادي محدود بحدود المادة/ غير إلحادية)؟. ألا يكفي المسلم المدني مجرد الانتماء لإصلاح الأرض والوقوف ضد إفسادها؛ ليكون عمله المدني عملاً إسلامياً؟ الفيلسوف والطيار والتقني والمهندس والطبيب والفنان والاقتصادي والصحفي والسياسي.. الخ الذين يمارسون أعمالهم المدنية، ويسعون لإتقانها غية الإتقان، ولا يرفعون شعارات الأسلمة، ليسوا بأقل إسلامية من عالم الدين الشرعي، بل ربما كانوا أكثر إسلامية منه - وإن لم يشعروا - حسب العائد النفعي على الأمة في النهاية. الأكثر نفعا وخيرية للأمة هو الأكثر إسلامية، بصرف النظر عن الشعارات التي ترفع لهذه الغاية أو تلك. وكمثال؛ عباس العقاد وسيد قطب - رحمهما الله - طرحا رؤيتهما الفكرية؛ بغية نهضة الأمة، كل منهما حسب ما قادته إليه قناعاته الخاصة. لكن، أيهما أكثر نفعاً وأقل ضررا؟. لو سألنا: أيهما أشد إسلامية. الجواب من قبل الرؤية الجماهيرية سيكون لصالح سيد قطب، والرؤية الشرعية السائدة جماهيرياً ستقف في صف سيد قطب. لكني لا انظر الى ايهما تتردد الاسلامية في خطابه أكثر، بقدر ما أنظر إلى أيهما أكثر جدوى على مجمل التراكم الفكري للأمة، وعن دور كل منهما في تعزيز قيم الانفتاح والتسامح والتعايش السلمي، وهنا لن تكون النتيجة في صالح سيد قطب، بل هي - دون التباس - في صالح العقاد. وإذا كان من الطبيعي - إنسانيا وإسلاميا - أن أثمّن المعاناة التي رافقت سيد قطب في سنواته الأخيرة، وأن أرثي لنهايته المأساوية التي تمت على يد أكثر الأنظمة وحشية، فإن هذا التقدير وهذا الرثاء لا يعني الموافقة على الطرح المتعصب الذي أسس له في الفكر الإسلامي المعاصر، ولا أن يختلط الفكر بطبيعة التضحية التي رافقت طرحه. للتضحية بريقها، وللفكر ارتكاسه وتهافته.. المسلم الأكثر إسلامية ليس هو المتماهي مع شكلانية خاصة، ولكنها رائجة، وليس هو الرافع لشعارات الإسلام على نحو علني، وليس هو الذي يتخم طرحه بالنصوص والمفردات الشرعية والمقولات التراثية، ويخدع الناس بهذا، دون وعي بمقاصدها وغاياتها البعيدة، وإنما هو الذي يقدم - على أية صورة كانت - أكبر قدر من العوائد الإيجابية لنفسه ولأهله ولوطنه ولأمته وللإنسانية جمعاء. هذا - في تصوري - هو الإسلامي الأشد التصاقا بمعنى الإسلام.