في مواسم الصيف التي تكثر فيها المناسبات وتُقام بها عشرات الملتقيات والأمسيات الشعرية لابد وأن تمر على مسامعنا أو أنظارنا عبارة: (قام الشاعر فلان الفلاني بإحياء أمسية شعرية في المكان الفلاني)، وكلمة (إحياء) التي أصبحت مع مرور الزمن مُلازمة للأمسيات الشعرية ليست بتلك الصحة أو الدقة التي يتوقعها المتلقي الذي لا يتمكن من حضور الأمسية ويكتفي بقراءة تغطيات الصحف والمجلات لها. فالكثير من أمسيات الشعراء تكون أمسيات (ميتة) يقتلها الشعراء أنفسهم مرةً ويقتلها المنظمون بأساليب عديدة ومتنوعة مرات أخرى، من بين تلك الأساليب قيام الشاعر بإلقاء قصائد طويلة ومُملة جداً وذات قدرة عجيبة على (تنويم) أكثر الحضور نشاطاً ورغبة في الاستماع والاستمتاع بالشعر، أو اختياره لقصائد نُظمت في مناسبات خاصة ليس للجمهور أدنى اهتمام أو علاقة بها كقصائد المدح أو الهجاء أو تلك التي تتغنى بمجد القبيلة وبطولات أبنائها البائدين..! يقوم بعض الشعراء أيضاً ب (قتل) الأمسية بإلقاء قصائد يُطلق عليها مجازاً قصائد (غزلية) تحمل إيحاءات جنسية أو صور حسية فاضحة تُخرجها من باب الغزل والأدب لتدخل في باب الإباحية وقلة الأدب، وتتسبّب في حدوث هروب جماعي للجمهور الحاضر حفاظاً على أسماعهم وذوقهم من التلوث الشعري؛ أضف إلى ذلك أمور عديدة تقتل الأمسية كسوء التنظيم سواء من ناحية اختيار الشعراء أو اختيار مكان ووقت إقامة الأمسية، أو تكرار أسماء معينة في كل مهرجان أو مُلتقى شعري وتجاهل آلاف الشعراء المبدعين ممن ينتظرون الفرصة للقاء الجمهور بشكل مباشر. وفي مُقابل ضعف وعي بعض الشعراء -المُتجلي في الأمور السلبية التي أشرنا إليها- بأهمية الأمسية، أعجبتني جداً رؤية شاعر العربية الكبير نزار قباني للأمسية حين شبهها بالمُختبر الذي يكشف للشاعر عن مدى (صحته الشعرية)، يقول نزار رحمه الله: (الأمسية الشعرية هي صورة شعاعيّة نعرف منها أننا لا نزال على قيد الحياة .. وتخطيطٌ كهربائي يُثبت أن قلبنا يضرب بصورة مُنتظمة .. ولا يضرب في العدم أو الفراغ .. الأمسية الشعرية تقريرٌ طبي نحصل عليه ممن حضروا أمسيتنا ونطمئن منه على صحتنا، والشعراء الذين يخافون الذهاب إلى الأطباء ويُهملون إجراء الفحوصات العامة، ويرفضون قياس ضغطهم أو تحليل دمهم يبقون طول العمر فريسة القلق والوساوس)، ويُضيف: (إنَّ أمسياتي الشعرية لا تنتهي بالغرور والغطرسة كما تتصورون، وإنما تنتهي بالبكاء .. ففي أعقاب كل أمسية شعرية ناجحة أذهب إلى سريري وأبكي .. في نهاية كل أمسية لا أنفشُ جناحي كديك؛ وإنما أسأل الله أن يقويّني، ويشرح لي صدري ويحلَّ عقدةً من لساني، لأكون في المرة القادمة أكثر اقتراباً من هموم الناس، وأدق ترجمة في نقل أصواتهم)..!