قامت الانقلابات العسكرية في الوطن العربي رافعةً شعار محاربة المثلث "الاستعمار ، الرجعية، والصهيونية" واستظلت بما يحدثه هذا الشعار من غزوٍ لغرائز البسطاء في الشارع، وما يبعثه من حماس، واندفاعات تأييد، وتناسل شعارات أخرى تدور في فلك هذا المحور المخادع ، والانتهازي، والمضلل ، والهادف في الأساس إلى إلهاء الشعوب عن التفكير في بناء مستقبلاتها ، والدخول إلى فضاءات الحداثة في السلوك ، والممارسة الحياتية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والتعليمية ، وتوجه الإنسان في المحيط العربي إلى فعل المشاركة في صناعة القرار التنموي ، ليتفرغ العسكر الانقلابيون إلى مهامهم التي تنتجها ثقافتهم الهلامية من وضع اليد على مقدرات الوطن ، ومصادرة قراره ، وسرقة مداخيله القومية ، ونهب كل ثرواته ومصادر دخله ، والاستئثار بالسلطة كاملة لاستفادة الأقارب ، والأصدقاء ، والمطبلين الهاتفين بحياة الزعيم ، والمسبّحين بحمد وفضائل وحسنات النظام . أما تنمية الإنسان ، والاهتمام بعقله ، وأمن مستقبلاته ، وحرياته ، ومايدخل في إطار تكوين الأجيال ، فهذا أمر مؤجل أمام أهمية وأولوية محاربة الأعداء من "استعمار ، ورجعية ، وصهيونية !!". وتأتي حقائق التاريخ ، ومعطيات الواقع صادمة، محزنة ، وموجعة ، تنشر التفتت ، والوجع داخل الإنسان العربي المسحوق ، إذ يكتشف أن محاربة الاستعمار هي كذبة كبيرة ، فالنظام يستظل ، ويستمد شرعيته ، ووجوده ليس من شعبه ، ولكن بدعمٍ ومباركة، وحماية من قوى استعمارية تفرض هيمنتها على قرار ، ومقدرات الوطن بصيغ أخرى متعددة الأوجه ، وتتغلغل في مفاصل الحياة السياسية في الوطن ، وتتخذ القرارات المصيرية نيابة عن النظام ، أو يكون النظام أداة تنفيذية لقرارات تُصنع في مطابخ الأمم. أما ثاني أضلاع المثلث الذي قام الانقلاب العسكري على أساس شن الحرب عليه كوباء - كما يصوره - يستهدف تخلّف الأمة ، وانهياراتها الاقتصادية ، والحياتية ، فهو "الرجعية" ويعني بهذا المصطلح ، الدول ذات الأنظمة الملكية ، وقد أثبت المسار التاريخي على مدى عقود من الزمن ، أن الأوطان التي شهدت استقراراً حياتياً ، وعاش إنسانها أمناً ورخاءً ، وخاضت معارك شرسة مع توطين الحداثة في مؤسساتها الاقتصادية ، والتنموية، وحققت انتصارات مبهرة في مضامين رؤيوية ، واستشرافية ، وحملت الهمّ العربي ، وهواجس الأمة إلى المحافل الدولية ، ومؤسسات صناعة القرار الأممي، وانتصرت لقضايا العرب ، وناضلت من أجل القضية المركزية ، هي "الأنظمة الملكية" أو ما سمّاها الانقلابيون العسكر "الرجعية". ونأتي إلى الضلع الثالث والأخير للمثلث .. محاربة "الصهيونية" ، ولانريد استدعاء التاريخ العربي المعاصر والقريب ، حين تحطمت الطائرات عند الفجر ، وحُسمت المعركة في أقل من ست ساعات على أكثر من جبهة عربية ، وشهد العالم العربي أقسى هزيمة عسكرية ، ونفسية ، وذهبت الجغرافيا ، والمقدسات إلى الحلم الصهيوني ، ولانريد أيضاً استدعاء خيبة أنظمة العسكر ، وهشاشة الحزب الواحد ، والزعيم الأوحد حين اجتاحت الدبابة الإسرائيلية الأرض العربية ، وكان أول احتلال إسرائيلي لعاصمة عربية في العام 1982 ، وتناول شارون وجبة الغداء في مطاعم برمانا في الجبل الشمالي للبنان . ودخل إلى رمز السيادة قصر "بعبدا". وأمام هذا الخزي ، والعار، فإن الجبهة في الجولان ظلت محصنة ومحمية لاتطلق فيها رصاصة ولو من صياد يمارس هواية صيد العصافير ، وطيور "الفرّي" طيلة عقود طويلة ، طويلة من الزمن تشبه في طولها مأساة الإنسان مع أنظمته ، والأوجاع التي راكمتها. إلى أين من هنا .. نخلص إلى القول إن الشعوب بدأت تستفيق من الأوهام ، وأساليب التضليل التي مورست عليها ، ومعها، وها هي تحاسب ، ونحسب أن الحساب عسير..