في أواخر الخمسينيات ، ومع ثورات العسكر البائسة ، الغارقة في تعاساتها ، تعرّفنا على خطابات إعلامية ومنبرية سمتها البارزة ليست في منهج الرؤية المستقبلية ، وتشخيص الداءات والأوجاع بفكرعلمي هادئ ، ووضع الحلول لانهيارات المجتمعات ، والإنسان بفعل التخلف الحياتي ، والفكري ، ومحاصرة ثالوث الفقر ، والجهل ، والمرض بل في ممارسة الصراخ ، والصخب ، والضجيج ، والوعود بالمنّ والسلوى، والرخاء المستدام ، والانعتاق من ويلات الحاضر- أو كما يصورها الخطاب الثوري - إلى مضامين أخلاقية في السلوك والممارسة القيادية ، ووضع العقد الاجتماعي الذي يقونن وينظم العلاقة بين القيادة السياسية والشعب في أطرها الواعية ، كما أنتجها علماء الاجتماع السياسي ، وكما يفرضها فكر العقل ، وتجارب الدول الديمقراطية الحضارية التي سبقتنا في ميادين العمل المؤسساتي ، وحقوق الإنسان ، وعلاقة الحاكم بالمحكوم. ساهم خطاب الصخب ، والضجيج ، والادعاء في حجب كثير من الخلل في بنية المجتمع العربي ، وفشل القيادات السياسية في وضع البرامج والخطط التنموية القادرة على تهيئة الإنسان لمواقع الفعل الإنتاجي ، والرؤيوي ، ومساهمته في صناعة النمو والتنمية والتحديث ، وغابت المؤسسات التي يُفترض وجودها في الفضاء التنظيمي ، والاجتماعي ، والتي من شأنها الحيلولة دون امتزاج صورة الوطن بصورة الحاكم الصنم ، لتحل بدلاً عن ذلك كله نرجسية الزعيم ، وتمحور الاهتمامات ، والهواجس ، والطموحات حول ذاته ، وغروره ، ومعجزاته الخارقة في صناعة الدولة ، وصياغة الفكر التقدمي والنهضوي للشعب ، في الوقت الذي تجتاحنا الهزائم ، والخيبات ، والارتكاس في الأمية ، والجوع ، وبدائية الحياة ، وتأصيل ثقافة المجتمع الرعوي المسلوب الإرادة . اجتاح هذا الخطاب السلطوي المخادع والمخاتل حياة الإنسان العربي ، وطبع سلوكه اليومي بالأحلام الوردية التي تحمل في مضمونها الخواء ، وعدم القدرة على التغيير في الفكر السياسي ، أو غياب هذا الفكر في الأصل لأن المعرفة مفقودة ، وصارت الحياة في الجغرافيا العربية من الماء إلى الماء تقتات الأناشيد ، والشعارات ، وتردد الخطب الثورية الاستهلاكية والمخدّرة ، وتعيش على حلم كاذب ، حتى أتت هزيمة 67 المزلزلة ليس لليقين فقط ، ولكن لكلّ ماهو أحلامُ تطلعات في الانتصار، واستعادة الكرامة والحرية ، وتحقيق العدالة ، والمساواة للشعوب ، والتحاقها بعجلة التاريخ ، ودخول منظومة العالم المتحضر والمنتج والفاعل. حينذاك انكشف زيف هذا الخطاب ، وهلامية مضامينه ، وتعرّى الفكر الذي يمارسه ، وأثبت أنه فكرٌ مضلل وعقيم ، وفشلت كل الأنظمة الثورية التقدمية في ادعاءاتها تحقيق الحرية ، والمساواة ، والعمل على المواجهة عبر بناء الشعوب بالتنمية الفكرية ، والاقتصادية ، والتعليمية، والحياتية.. غير أن المؤلم والمفجع هو انتقال هذا الخطاب ، بما يحمله من ضجيج ، وصخب من كونه صناعةَ أدوات السلطة ، وفناً يجيده الانتهازيون والوصوليون والنفعيون ، أو على الأقل انحساره النسبي ، انتقل إلى منابر ، ووسائل إعلام الأيديولوجيا السياسية والعقائدية والحزبية، وصار الهجوم الشرس ، والتخوين ، والتكفير ، والإلغاء ، والتهميش سمة الخطاب الاجتماعي ، ومنتج الحوار بين الفئات ، والشرائح ، والأطياف في كلّ الدول العربية . ومعنى هذا استمرار الصخب ، والضجيج ليحجبا الرؤية في مساراتنا.. لنعترف بفشلنا ، وإفلاسنا ، وعجزنا عن التأسيس لخطاب عقلاني هادئ يكون محرّضاً لأجيالنا على ممارسة ثقافة الحوار ، وتقبل الآخر ، والفشل ناتج عن كون أن " العرب ظاهرة صوتية "..