لم نعتد بعد، ما دمنا لم ندخل المجتمع الصناعي، أو لم نعشه كجزء من حياتنا نحن العرب، على الحياة الجماعية، في العمل والسكن والتعاون الاجتماعي، وهذا من طبيعة الأشياء، بالنسبة إلينا، لكوننا لا نزال في مجتمع زراعي، من سماته الفردية، وكل ما لدينا، صناعة تحويلية، أو تركيبية، أو تصنيع الحاصلات الزراعية، بنسبة تختلف بين بلد عربي وآخر! سيقال إن لدينا صناعة الغزل والنسيج، وصناعة الألبسة بكل أنواعها، وصناعات أخرى تعدينية خفيفة، في مصر خصوصاً، واني لاعرف ذلك، لكنني أتحدث عن الصناعات الثقيلة، التي هي قوام المجتمع الصناعي، وهذه لم تتوفر لدينا بعد، وفي التصنيف الدقيق، فإننا لم نخرج من المجتمع الزراعي، وهذا ليس عيباً، وله في تاريخنا الحديث، بعض المحاولات الجادة، ترافقت مع بداية عصر النهضة العربية، للخلاص منه، والبدء بالتصنيع الحقيقي الذي بشر به، في مصر، طلعت حرب ورفاقه، من دون استكمال أدواته، وأهم القطع مع المركز الرأسمالي العالمي، هذا الذي بقينا ندور في فلكه إلى يومنا هذا من القرن الحادي والعشرين. لقد حققت البلاد العربية استقلالاتها السياسية، وأجلت الجيوش الأجنبية عن أراضيها، إلا أنها ظلت مرتبطة، اقتصادياً، بالمركز الرأسمالي العالمي، أي ظلت. بكلام آخر، غير مستقلة تماماً، وهي تعاني مأساة عدم الاستقلال التام هذا، جاهدة في بناء اقتصادها على التنمية الزراعية أساساً، ثم على التنمية المرتكزة على الصناعات الخفيفة، وهذا لا يعد تصنيعاً، لأنه لبلاب على هامش المجتمع الزراعي، وما فيه من فردية هي أبرز مظاهر حياتنا في الوطن العربي، والعالم الثالث عموماً، وهذه الفردية، في العمل البحثي، لم تعد صالحة لإنتاج أبحاث مستفيضة، ودراسات معمقة، تتطلب أفرقاء عمل في كل منها، موسعة بقدر المستطاع. أما في الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، فإن الأمر يختلف، الرسام يرسم في مشغله بمفرده، وفرديته هنا ضرورية، الشاعر، والقاص، والروائي، يشتغل كل منهم بمفرده، وفرديته، هنا، ضرورية أيضاً، لأنها تعطيه أسلوبه الخاص، صوته الخاص، تعطيه التميز الذي يجعل منه نسيجاً خاصاً، في الرسم والنحت والقص، ومن دون هذا التميز لا تتحصل له الشخصية الإبداعية المطلوبة. لا يعني هذا أن على المبدع أن يتقوقع في برجه الطيني أو العاجي. إن زمن الصوامع والأبراج ولّى إلى غير رجعة. وقد كان عمر فاخوري على حق، حين طالب، في اربعينات القرن الماضي، بالنزول إلى السوق، في كتابه «أديب في السوق» أديب من لحم ودم، يعيش بين الناس، في الأسواق والأحياء والمقاهي وقاعات المدن والبلدات، فيتعرف إلى البيئة، معرفة عيانية، معيشة، متشبعة بكل ما في هذه البيئة من رؤى، انطلاقاً من الملاحظة الدقيقة، وعودة إليها حين يعمل، وحين يكون مدركاً، بأعمق العمق، الفروق بين الناس، والفوارق في التقاليد والعادات والحكايات والخرافات والأضاليل والأباطيل، وما فيه ضر، وما فيها نفع، والتقاط الأحداث من الواقع، ليحولها، في المعالجة الفنية، إلى فن أصيل، فيه الصدق الذي هو قوام العمل الإبداعي الناجح، الذي يتعرف فيه المشاهدون والقراء إلى أنفسهم، وإلى نواقصهم وفضائلهم، وإلى ما يجمل بهم أن يأخذوا به، وبعبارة أخرى، إلى ما يجب أن يعوه وعياً صحيحاً، بدلالة الحدث، وإيحاء اللوحة، وجمال النغم، وتأثير الكلمة، لا بالصراخ والافتعال، اللذين يقتلان كل إبداع، إلى أي جنس أدبي أو فني انتمى. الفردية نعم، ولكن كيف؟ والنزول إلى السوق نعم، ولكن بأية عقلية؟ والانعزال عند الإبداع نعم، ولكن متى؟ قبل معرفة البيئة أم بعدها؟ إن محبة الشعب، التي سادت مقولتها في القرن التاسع عشر، محبة ضارة إذا كانت عمياء، ذلك أن الحب يعني الاغضاء، التسامح، انعدام النقد، انتفاء التربية السليمة، تحويل الطرف عن الخطأ، الاشاحة عن السوءة، بكلمة أخرى: حب الشعب المطلق يذهب مع المطلق، يصير عكسه، وهذه الأشياء كلها، ليست من رسالة الأدب والفن كليهما. رسالة الأدب والفن هي الاستئناف ضد ما هو كائن، في سبيل الأفضل الذي سيكون، مهمة الأدب والفن لا أن نحب الشعب، بل أن نفتح عينيه، نوقظ تفكيره، ننمي وعيه، نبصّره بأخطار اللامبالاة والكسل واليأس والاستسلام والانهزام، ومقولة كل من أخذ أمي أنادية: يا عمي. ليس معني هذا المباشرة في التبشير، هذه مهمة الآخرين، مهمة رجال السياسة، مهمة الخطباء، الوعاظ، الذين يسلكون، لتفيهم الناس، أقصر الطرائق، وهؤلاء ليس بينهم وبين الإبداع الفني، الذي نحن بصدده، أية صلة، فالكلمة في الإبداع الفني، غيرها في الإبداع السياسي، مع أن الثقافة، في المال، لا تنفصل عن السياسة، لكن السياسة، في عملية تنويرها، تأخذ من الثقافة هذا التنوير، أي أنها تفتني بها وليس العكس. وفي جماليات الرواية، للدكتور علي نجيب إبراهيم، دراسة ممتعة عن الرواية الواقعية في سورية، واستناداً إلى ما قاله المنظر الفرنسي آلان، في كتابه «نظام الفنون الجميلة» نجد هذا الرأي: «أن نظام الفنون قائم على الاختلاف بين طبيعة الأجناس الفنية» التي يتوطد ترابطها، باختلافها، فيغدو أمتن وأقوى، وبذلك تتأكد فكرة أن أياً من الفنون لا يستطيع وحده، أن يحمل مهمة تصوير الواقع من جوانبه كافة، وعلى نحو كامل يرضي القرائح الإبداعية وأذواق الناس، فهذه مهمة لا تتأتى إلا بمشاركة كل الفنون. المبدأ العام هذا صحيح، إلا أن التخصص، بجنس أدبي واحد، أو فني واحد، صحيح أيضا، فقد كان الرسّام السوري الشهير، المرحوم فاتح المدرس، من كتّاب القصة القصيرة الناجحة، إنما تخصص بالرسم وليس بكتابة القصة، ولهذا يعتبر رساماً وليس قصاصاً. وناظم حكمت، الشاعر التركي الكبير، كان رساماً أيضا، إلا أنه تخصص في الشعر وليس في الرسم، لذلك اعتبر شاعراً لا رساماً. التخصص، بجنس أدبي واحد، أو جنس فني واحد، هو المبدأ المعمول به إذن، ولا حاجة لتقديم المزيد من الأدلة والشواهد.. وقد جاء في كتاب جان بول سارتر «ما الأدب؟» ما يلي: «إننا لا نستطيع أن نتأمل عملاً نثرياً كما نتأمل لوحة تصويرية، فنحن غير قادرين على رؤية العمل النثري كاللوحة، إنما نرى الأشياء من خلال هذا العمل». ما معنى هذا؟ معناه أن اللوحة شيء، والعمل النثري شيء آخر، معناه أن اللوحة غير الرواية، حتى ولو كان الراوئي يرسم، كإضافة، بعض اللوحات، معناه أن الرسام غير الروائي، حتى لو كتب روايةما إضافة إلى رسمه.. وباختصار فالفردية، بالنسبة للمبدع ضرورية، يتطلبها التميز، والتخصص في جنس أبي أو فني واحد ضروري أيضاً، ولا مناص من ذلك، حتى مع تعاون الفنون جميعاً، وإلا كان المبدع مثل لاعب السيرك، يلعب على الحبال كلها، ونحن نلاحظ، أن التخصص الذي اتكلم عليه، موجود في السيرك نفسه.