دوت تكبيرات المقاتلين واختلطت أصواتهم العالية بأصوات الرصاص المصمم خصيصاً لاختراق الدروع. وأمطروا رتلاً عسكرياً أمريكياً بوابل من الرصاص من مكان آمن قرب منزل مهجور. كان عناصر المارينز يستعدون لإنقاذ أحد زملائهم المصابين حين فاجأهم هذا الكمين المحكم. وحوصر الجنود الأمريكيون في مكانهم هذا طوال الليل ولم تتوقف المعركة أبداً حتى بدأت أصوات المقاتلين تنخفض وتقل إلى أن أصبحت صوتاً واحداً ينتظر دوره هو بعد للفوز أو الموت. وتمكن الجنود الأمريكيون من الإفلات من هذا المأزق الصعب وتطلب ذلك أن يشنوا خمس هجمات منظمة باستخدام القنابل والمدفعية ودمرت المخابئ التي احتمى فيها المقاتلون بالدبابات وبعضها تطلب قنابل زنتها 500 رطل ألقت بها مقاتلات الإف - 18 بعد أن حددت أهدافها بدقة. وفي النهاية، حصل الأمريكيون على زميلهم المصاب ولكنهم خسروا في معركتهم تلك جندياً واحداً وأصيب خمسة منهم. وطبقاً لهؤلاء الجنود الناجون من الموت فقد كان المقاتلون الأجانب الذين واجهوهم في تلك البلدة القريبة من الحدود السورية - العراقية شجعاناً للغاية.. وأثبتوا أنهم مقاتلون أشداء ومن الصعب جداً إيقافهم لأنهم كانوا يبحثون عن الموت كما وصفهم الأمريكيون. قال العريف الأمريكي تشوك هيرلي من الفوج الخامس والعشرين الذي واجه المقاومة في بلدة العبيدي الحدودية «جاؤوا هنا لكي يموتوا...» واصفاً بتلك الكلمات حجم الإصرار والصلابة التي واجهوها أثناء تلك المواجهة العنيفة. وأضاف العريف هيرلي «كانوا مستعدين للبقاء في مخابئهم والموت فيها.. وكل ما أرادوه هو أن يأخذونا معهم». وأصبحت بلدة العبيدي بعد تلك المعركة الشرسة هدفاً جديداً للجيش الأمريكي الذي شن هجوماً شاملاً لإيقاف المقاتلين الأجانب الذين يتسللون عبر الحدود السورية بحثاً عن مكان لهم بين عناصر المقاومة العراقية. وخلال يوم واحد فقط، وصل أكثر من ألف جندي من البحرية الأمريكية تدعمهم مروحيات الكوبرا ومقاتلات الهورنيت إلى تلك البلدة الحدودية التي لم يصلها التمشيط العسكري الأمريكي أو العراقي منذ أكثر من عام. وألمح القادة الأمريكيون إلى أنهم يعتقدون أن قادة التنظيمات الإرهابية في العراق قد يكونوا مختبئين في تلك المناطق وبأن الوقت قد حان للبحث عنهم لإيقافهم قبل أن يستمروا في تبني المقاتلين الجدد ودعمهم بالمال والسلاح وتوزيعهم على مناطق مختلفة من العراق. وقال المقدم تيم موندي قائد الكتيبة الثالثة التي شاركت في العمليات «نحن نحاول أن نحطم ملجأ العدو الآمن». ويقول بقية الضباط الأمريكيين ان الزرقاوي - المطلوب رقم واحد في العراق- قد يكون في حماية زعماء العشائر في الحديثة وصرحوا أنهم سيزيدون من جهودهم من أجل القبض عليه أو تصفيته، واعترفوا أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من القبض عليه عند إحدى نقاط التفتيش في فبراير الماضي. ثم فلت مرة أخرى بعد أن أثبت جرأته ووقف أمام المصلين في أحد مساجد الحقلانية ليلقي عليهم خطبة الجمعة دون خوف من الجيش الأمريكي. ويصر كثير من القادة الأمريكيون والعراقيون أن الزرقاوي يقف خلف معظم الهجمات الانتحارية العنيفة التي تودي بحياة عشرات العراقيين يومياً. وتواصل القتال يوم الثلاثاء الماضي، وكان من الممكن سماع دوي الانفجارات وطلقات الجنود ومدافعهم عبر النهر الأخضر وقت الغسق. وخسر الأمريكيون ثلاثة جنود في الهجوم بينما سقط أكثر من 80 مسلحاً من الجانب الآخر منذ بدء الاشتباكات يوم الأحد. وبعد هدوء الاشتباكات حرص الأمريكيون على تمشيط البيوت كلها في تلك المناطق ليجدوا مفاجآت لم يتوقعوها على الإطلاق. وطبقاً للعريف هيرلي الذي شارك في القتال ثم التفتيش، فقد وجد الأمريكيون أسلحة مخبأة فاقت كل التوقعات.. كان هناك قنابل ثقيلة ودراجات هوائية صنعت مقاعدها من المتفجرات ربما لغرض تهريبها عبر نقاط التفتيش كما وجدوا أجهزة تفجير لاسلكية وعشرات السيارات المفخخة التي كانت تنتظر السائقين الانتحاريين ليأخذوها في رحلتها الأخيرة وكميات كبيرة من الأجهزة الإليكترونية الغالية. كما كان أغلب المقاتلين إن لم يكن جميعهم يرتدون ملابس واقية من الرصاص وتعرف الأمريكيون على كثير منهم ووجدوا أنهم قادمون من دول مجاورة عبر الحدود السورية من أجل محاربة الأمريكيون وحلفائهم. وكان كل المقاتلين يحملون أسلحة روسية الصنع مزودة بذخيرة تخترق الدروع. بينما كان الأمريكيون يحملون رشاشات إم-61 الهجومية والتي لم تكن قادرة على الصمود أمام تلك الأسلحة القوية لولا التخطيط العسكري الذي قلب كل الموازين. وعاش رجال المارينز وقتاً صعباً في تلك المنطقة المليئة بالمقاتلين الأجانب. كانوا يخافون من التكبير لأنهم باتوا يعرفون تماماً أن وراءه هجوماً عنيداً من الصعب مواجهته. وكان الجنود يرمون أنفسهم أرضاً فور سماعهم صيحات التكبير، ودون أن يكونوا قادرين على تحديد مصدر الصيحات تجدهم يطلقون نيران رشاشاتهم بشكل عشوائي مدمرين كل شيء حولهم. ولكن جنود البحرية وعلى الرغم من كل الصعوبات صمدوا في أماكنهم وانتظروا الأوامر الجديدة واستمروا في كر وفر إلا أن وصلت الدبابات التي ساهمت كثيراً في التخفيف من رعب الجنود بعد أن دمرت كثير من المخابئ المحتملة للمقاتلين. وقال الجنود ان الوضع كان وكأن البلدة كلها تعد لنا كميناً، فقد فلتنا من قبضة الموت أكثر من مرة. وكان على الجنود الاحتماء من الرصاص المخترق للدروع الذي انهمر عليهم من وراء الجدران ولم يعرف أحد مصدر إطلاق النار لكي يردوا عليه بالمثل. وخرج بعض الجنود من بين الجدران المثقوبة بسلام وحاولوا أن يحتموا بالدبابات وبدأوا بتفتيش البيوت بحثاً عن أولئك المسلحين بعد أن استجمعوا قواهم مجدداً. ولم يعلموا أن كابوساً آخر كان يتربص بهم خلف أحد الأبواب.. فقد وصل الجنود لمنزل قديم ونظموا فريقاً لاقتحامه وفور أن كسر أحدهم الباب فاجأته نيران أحد المسلحين الذي كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر. وسقط الجندي الأمريكي عند المدخل بعد أن اخترقت الطلقات المخترقة للدروع جسده وحاول بقية الجنود إنقاذه ولكنهم تعرضوا لهجوم آخر جعلهم يفكرون بطريقة أخرى للوصول لزميلهم ولم يجدوا حلاً أفضل من الاستعانة بالدبابات التي أطلقت قذائفها بسخاء نحو المنزل الذي تحول إلى كومة من الرماد خلال ثوان فقط. واستمرت الدبابات في تطهير المواقع المحيطة بالجنود الأمريكيين حتى صنعت نقطة آمنة تحرك فيها الجنود بحرية بعض الشيء. وفي الصباح الباكر عاود الجنود تمشيطهم وصادفوا كثيرا من الجثث داخل البيوت ولكنهم لم يجرأوا على الاقتراب منها خشية أن تكون مفخخة. ولكنهم حرصوا على إلقاء قنابلهم اليدوية في كل غرفة فقط لتطمئن قلوبهم بأن الجميع قد سقطوا بالفعل.وقال العريف هيرلي «يصعب علي وصف حالنا خلال تلك المعارك.. كان أسوأ موقف لي منذ وصولي للعراق». ثم أضاف » كنا منهكين للغاية وأردنا أن نحصل على قسط من الراحة ولكن كيف يغمض لنا جفن ونحن نعلم أن أعداءنا يحملون أسلحة وذخائر قادرة على اختراق الدروع والجدران.. شيء مرعب». ٭ (واشنطن بوست)