أعتقد أن الماضي مؤشر يمكن الاستعانة به في بعض الحالات، لكنه ليس علمًا ثابتًا يمكن الاستدلال به بشكل قطعي، فمن كان حظه سيئًا في فترة من الزمن لايعني أن يكون قدره هو السوء. تقول الشاعرة الأمريكية الشهيرة «مايا أنجلو»، وهي إحدى الناشطات المعروفات في حركة الحقوق المدنية الأمريكية: «قد يغيّرني مايحصل لي، ولكنني أرفض أن يحجّمني». الشيء المؤكد أن ماضي الإنسان جزء من شخصيته، ولايمكن لأيّ شخص التخلّي عنه. وقد يدلّ ماضي الشخص على طبيعته الاجتماعية والأخلاقية والمهنية. أذكر أنني حينما عدت من الدراسة في أمريكا، قابلني، بعد فترة من الزمن، بعض الطلاب الذين درّستهم في المرحلة الابتدائية عام 1408ه، وعرّفوني بأنفسهم، وتذكّرتهم مباشرة. بحثوا عني حتى وجدوني، وفاءً منهم لكي يسلّموا عليّ. وبعد أن لقيتهم وعرفتهم، رحت أقارن صورتهم الحالية، وقد صاروا رجالا موظفين ومتزوجين ولهم أسرة، بصورتهم حينما كانوا أطفالا؛ فوجدت أن الصورة الأصلية لاتزال موجودة، حتى طبيعة الحركة والضحكة والكلام وطريقة المزح والتعبير. وقلت لأحدهم مازحًا: ملامح الماضي لم تتركك بحالك، فيك شقاوة جميلة، الحمد لله أنها لم تغادر محيّاك. إن شخصيتنا الناضجة فيها بقايا من الطفولة وآثار قوية من الماضي. ولأن ماضينا متلبّس بنا، فقد ذهبت بعض الدول إلى وضع نظام أمني للتحقّق من ماضي الشخص القانوني يمكن الاستعانة به عند التوظيف. ومع أن البعض يقع ضحية صدفة وضعته في المكان والوقت الخطأ فيُتّهم بجريمة ما، وتكون وصمة في تاريخه، فإن هذا النظام - على علاّته هذه - لازال قائمًا ومعمولا به في الكثير من الدول الغربية. والحقيقة أن التحقّق من الماضي وربطه بحاضر الإنسان والتنبؤ من خلاله على المستقبل ليس فقط وسيلة أمنية، بل يمارسها الكثير من الناس في العلاقات الاجتماعية، فتجد البعض يتساهل في الحكم على غيره بأحكام إيجابية محضة أو سلبية كاملة على أساس معلومة وصلت له، أو بسبب عمل قام به هذا الشخص دون مراعاة لظروف الأمر وتفاصيله. فعلى سبيل المثال، يظل السارق المراهق مجرمًا في عيون من يعرفه ويُصبح غير جدير بالثقة حتى بعد نضجه وتغيّر حاله لأن العين تظل تراه دائمًا ذلك المراهق المعتدي. وأيضًا، يُعدّ كل خارج من السجن في نظر المجتمع مجرمًا حتى وإن كانت تُهمته منذ البداية فيها الكثير من الظلم والتفخيم. وقد يقسو المجتمع كثيرًا على أصحاب الماضي من هذه النوعية فيحرمهم فرص التوظيف أو التعليم فتقفل جميع فرص التغيير الإيجابية في وجوههم ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى الأمور السابقة التي ألفوها في حياتهم من قبل حتى وإن كانت خاطئة، وحينها سيكون الخاسر الأول هو المجتمع. وعلى النقيض قد يرى المجتمع كل الخير في أشخاص عرفت عنهم بعض الأفعال الخيرية، فيسبغون عليهم مواصفات ملائكية ترفعهم عن مستوى البشر فلايتصورون منهم سوى الخير، ولايتوقعون منهم أي تقصير، ومع أنهم في نهاية الأمر بشر لهم طاقة استيعابية محدودة، فإن ردة الفعل العكسية عليهم جبارة لاترحم. وهذه الأحكام المتطرفة إيجابًا كانت أو سلبًا تتجذر في عقلية نمطية ترى العالم بلونين فقط، ولامجال لشيء آخر يفسر أي اختلاف أو غموض. فإمّا الكره الكبير أو المودّة العارمة. وفي كلتا الحالتين، فإن العاطفة غير سوية وغير ثابتة لأنها في أساسها لم تُبنَ على قواعد منطقية لها دلالات يمكن قبولها فعليا. كتب "آيس- تي" وهو فنان أمريكي ممن كانوا ينتمون إلى فئة المجرمين سابقا، كتابًا صدر هذا العام بعنوان: "مذكرات لحياة مجرم والتوبة منها: من الحي الجنوبي إلى هوليوود"، يتحدّث فيه عن ذكريات حياته السابقة حينما كان يمارس السرقة ووقوعه في وحل الجرائم بعد وفاة والديه وهو في عمر صغير. وقد سأله المذيع الأمريكي "ستيفن كوبير" عن سبب كتابته لهذا الكتاب، فذكر أنه يريد أن يكتب عن بعض السواد الذي مرّ به، وماذا تعلم من هذه الحياة حتى يُنقذ الأطفال والمراهقين من الثمن القاسي الذي يمكن لهم دفعه لو كرّروا الأخطاء ذاتها. في هذا الكتاب يوضح أنه رغم انخراطه بالسرقات فإنه لم يتعاطَ الخمور والمخدرات، وكان رجلا يؤمن بالحب والعلاقة الثابتة ولم يعرّض نفسه أو غيره للخطر. وهناك مثال آخر، ولكن هذه المرة لشخصية تعدّ مثالا إيجابيًا تقع في الخطأ، وهي السيدة المشهور "مارثا ستيوارت"، فهي معروفة منذ سنوات بدقتها في العمل وحبها الشديد للنظام لدرجة أن زوجها لم يعد يحتمل الحياة معها بسبب روتينها وانضباطها غير البشري، كما وصفه البعض؛ فهرب منها. والسيدات حول العالم يبجلنها كونها تخبرهن بالكثير من أسرار العناية بالمنزل والاهتمام بالمطبخ وغير ذلك، ولكنها اضطرت أن تدخل السجن بسبب تلاعب حصل عند بيع حصتها في الأسهم. ومع هذا، فإن المجتمع رحّب بها بعد خروجها ولازالت برامجها التلفزيونية في أعلى القائمة لدى الكثيرين، بل إن برامجها تأتينا عبر محطاتنا العربية مترجمة في إشارة إلى عالمية شهرتها. وقد تكون الأمثلة كثيرة وربما هي أكثر وضوحًا في العالم الغربي بسبب صراحة الإعلام لديهم وعدم تحرّجهم من الحديث عن الحقائق مهما كانت صعبة أو لها علاقة بشخصيات مشهورة. وعلى أي حال، فإن المجتمع قد يربح في إعطاء فرصة عادلة لمن أراد أن يُصحّح بعض أخطائه، فليس دائمًا الماضي هو انعكاس حقيقي لحاضر الإنسان ومستقبله. وليس علينا أن نتحدث عن الجريمة أو الخطأ القانوني هنا فحسب، بل أحيانًا يحكم الشخص على نفسه أنه فاشل أو متشائم لأنه لم ينجح في عمل شيء ما في السابق أو لأنه بالفعل يشعر بالسوداوية تجاه محيطه. والحقيقة أن "الفشل" إن صحّ لنا تسميته بذلك، يُنظر إليه على أنه اكتشاف لطريقة أخرى لعدم النجاح في هذا العمل، والفشل هو فرصة للتعلم من جديد ، ولا ينبغي أن يؤخذ على أنه إخفاق نهائي وسقطة مُدمّرة. والشيء ذاته نحو المشاعر التي تعتري الإنسان، لأن العاطفة قد تتموّج من سعادة إلى خمول واكتئاب لأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال وليس الحصر التغيرات الهرمونية والكيميائية في الجسم والمرض، وأحيانًا الطقس أو الوزن أو أسباب مادية ملموسة مثل ضغوط العمل أو مشكلات في العلاقة الخاصة أو مشكلة مالية، وخلافه. وهنا يمكن التعامل مباشرة مع المشكلة بدلا من التقوقع على الذات ووصمها بالسلبية والخمول في الوقت الذي تمر فيه بردّة فعل طبيعية يمكن التحكّم فيها والتغلب عليها فليس دائمًا الإنسان أسيرًا لماضيه، بل ليس من العدل أن يكون الأمر كذلك في كل الحالات والأحوال. أعتقد أن الماضي مؤشر يمكن الاستعانة به في بعض الحالات، لكنه ليس علمًا ثابتًا يمكن الاستدلال به بشكل قطعي، فمن كان حظه سيئًا في فترة من الزمن لايعني أن يكون قدره هو السوء. تقول الشاعرة الأمريكية الشهيرة "مايا أنجلو"، وهي إحدى الناشطات المعروفات في حركة الحقوق المدنية الأمريكية: «قد يغيّرني مايحصل لي، ولكنني أرفض أن يحجّمني». وكلامها منطقي، فالإنسان قد يتغير بسبب خبرته في الحياة ومايحصل له من أحداث، لكن لايمكن أن يكون تعريفه الشخصي هو مجرد أحداث حصلت له، لأنه بلاشك أكثر من ذلك؛ فهو كتلة من الأفكار والمشاعر والمعتقدات والأقوال والأفعال، ومجموعة من التأثيرات الخارجية التي تعني له شيئًا مهمًا مثل عائلته ومحيطه الخاص به. هذا إلى جانب أن البعض قد يقول شيئا أو يقدم على فعل شيء ما ليس من باب الإيمان به بل لأنه اضطر إلى ذلك لأسباب خارجة عن سيطرته كحماية عائلته أو الحصول على وظيفة أو خلافه. وهنا تصبح العلاقات الإنسانية معقدة للغاية، فليس من السهل أن تقرأ سيرة ذاتية لشخص ما فتقول إنك تعرفه؛ أو تقرأ مذكراته وتدعي أنك أدركت شخصيته؛ أو تراه كل يوم في طريقك للعمل وتتوقّع أنك تفهمه..