لا أكتفي من الكتابة عن فوزية أبو خالد وما تعنيه بالنسبة إلي أو ما تعنيه كتاباتها أو مواقفها أو مسيرتها على المستوى الوطني أو الأكاديمي أو الشخصي فثراء أبعاد شخصيتها وقلبها الكبير لا يترك للمرأة أو المرء المساحة الكافية للتعبير عن كل هذه المعاني، فضلاً عما تضفيه بلاغة حرفها ورهافتها من شعور بالعجز أمام أي محاولة محاكاة، فأكتفي بأن أستمتع بما أقرأ وأقنع بأن لكل كلمة ربّانتها. من الصعوبة بمكان أن أسرد ذكريات مدة تقارب العشرين عاماً تزاملنا فيها وتعايشنا وتصادقنا وسافرنا وكتبنا ودرسنا وعملنا. اشتركنا في صداقات وفي مؤتمرات وفي جامعات ومساكن وملتقيات، عاصرنا أحداثاً وتحديات، أفراحاً وأتراحاً وأحلاماً. حملنا حلم الوطن والمواطن، المرأة والطفل، الإنسان والمهمّش، الحرية والكرامة، العدالة والمساواة، بينما تحمل اليوم عبء مرضها ومحاربتها العدو الخبيث الذي ينهش في جسدها وحدها، فمن يستطيع أن يتبادل المواقع مع المرض والألم؟ إنها معركة فردية لسوء الحظ وليس لنا نصيب منها سوى الدعاء والدعم المعنوي لها، وهو أضعف الإيمان. فوزية المفكرة والشاعرة والإنسانة والصديقة كان أثمن توصيف لها بالنسبة إليها أنها أم، أم طفول وغسان وكثير من الشابات والشبان من أجيال ستأتي. تحمل في فؤادها كماً من الحنان والشعور بخطورة المهمة التي تبنتها وآمنت بها، مهمة تنوير العقل وتربية النشء والارتقاء بالحاضر ليكون مستقبلاً لائقاً بالإنسان من ما كان، كريماً حراً، ولأبناء الصحراء والواحات والمدن والقرى والحواضر نصيب كبير في جزيرة لا تنفصل عن العالم، عربياً كان، إسلامياً أو إنسانياً. تمضي أيام كفاحها للكيماوي بصبر وعزيمة في لندن حيث أذكر يوم وصولها من الرياض لتشاركني محاضرتي التي رعتها الأكاديمية البريطانية منذ أربعة عشر عاماً، تغالب تعبها وإرهاقها لتشاركني تلك السويعات والصداقات. وفي لندن حيث أمضينا أياماً نسوح في المتحف البريطاني ونستكشف قاعاته الصغيرة والكبيرة وموقع بعض آثار الجزيرة العربية ومصر وبلاد الرافدين مستلهمين منه تاريخنا المسلوب. في لندن أيضاً ترد ذكرى إصرارنا على أن نقطع مسافة الأربعمائة كيلومتراً من مانشستر إلى لندن في سيارتي الأولى بقيادتي المبتدئة بوقفات الطريق مع أبنائها وهم يتطلعون شوقاً لحضور أمسية من عزف نصير شما تمكنا من حضورها في نهاية المطاف. تقاطعات أبنائنا أيضاً تثير الشجن، وهدهدة طفول لأجواد منذ كان رضيعاً في شهوره الأولى التي استمرت تقليداً دورياً حرصت على استمراره حتى بعد انضمام زين الشرف إلى أجواد لتنافسه حبها وحب طفول وغسان لا تُنسى. مانشستر ورحلة طلب العلم واكتشاف الأفكار والأشخاص والغرب في صورته التسعينية. آشبورن هال، المسكن التاريخي الذي يضم أول فتيات انضممن إلى جامعتها والذي احتفل بمئويته عام 1999 وكللته بقصيدة نادرة عنه وعن نسائه علقناها على جدار مكتبته التاريخية. الأمسية الشعرية التي جعلناها عصرية وقدمت فيها جميل قصائدها. لم تكن تجربة قراءة قصيدة من قصائدها سهلة حتى وهي مترجمة، فعبرة الإحساس الرهيف تبقى ضافية مهما اختلفت اللغات. يرد إلى ذكري حلقات درس دراسات المرأة المسلمة التي كنا نعقدها في آشبورن هال وإعادة قراءة نصوصنا بقراءاتها النسوية في المحيط البريطاني المسلم. المؤتمرات والمحاضرات التي نحضرها، نشارك فيها أو ننظمها وندعو لها، جامعة أوكسفورد وتقديم جلسة ضمن سلسلة مخصصة للمرأة العربية في سانت أنتونيز كوليج والمشاركة في مراسم الكلية العريقة التقليدية. عالم لا يتوقف عن العمل والتفكير والإنتاج ونحن نرصده ونشاركه حركته منقطعي الأنفاس ووراءنا تراث من التقليد والمحاكاة ومصادرة التفكير نقاومه ونمضي بكل ثقة. فوزية، كلي ثقة في الله بأنك سوف تنتصرين على هذا المرض، فقد واجهت ما يهد الجبال ولم تهتزي ولن تهتزي بإذن الله. ولا أشك أن لك من اسمك نصيباً كبيراً.