عرف الباحث في علم الجمال، الروسي لونتشارسكي علم الأدب بأنه «أداة بالغة الدقة لمعرفة المجتمع.. وان أحد المبادئ الأساسية في علم الجمال هو المنشأ الاجتماعي للابداع الفني» وقال يليخانوف: «على السوسيولوجيا ألا تغلق الأبواب في وجه علم الجمال، بل على العكس ان تفتحها على مصاريعها». في هذين القولين، لمفكرين كبيرين، تأكيد تام على أن المجتمع مصدر الجمال الفني في الأدب، لكن المجتمع ليس كتلة صماء، أو واقعاً جامداً في حالة ثبات دائم، انه، على العكس، معطى مفارق، ناطق، حيوي، كثير التناقضات، وهو، بهذه الصفة، مصدر المادة التي يشتغل عليها المبدع، إلى أي جنس أدبي انتمى ابداعه، ولأن المجتمعات كلها، ليست في اتساق أو انسجام، فإن التناقض، في وحدة الأضداد، هو القانون العام لكل مجتمع، كذلك كان، وكذلك سيبقى ما بقيت الحياة، التي تتطلب التناقض في الوحدة، كدافع لها إلى الأمام. وهذا التناقض يولد الصراع، حتى في اشكاله العليا، وفي كل الأنظمة التي عرفتها البشرية، وإذا ما تكلمنا على المجتمع العربي، فإن تناقضاته أعمق، والصراع فيه أشد، وهو في حالة تأزم واضحة، مبعثها ان الفرز الطبقي، بدقة الكلمة، لم يجر فيه بعد، ولم تتحدد، تالياً، معالم طبقاته وحدودها، والمشاكل التي يواجهها كثيرة ومعقدة، وهذا كله لابد ان ينعكس في الأدب والفن، الناتجين عنه، وإلا فإن هذا الأدب، وهذا الفن، يكونان متسطحين، ساذجين، غير أمينين على فهم الواقع، بعيدين عن الحقيقة، وهي الأصل في الابداع الخلاق. يقول المنظّر والناقد الشهير للرواية ميخائيل باختين: «الرواية تعبر أكثر من غيرها عن النزعات القائمة لبناء العالم الجديد، وقد سبقت التطور المستقبلي للأدب كله، في مجالات كثيرة، ومازالت تسبقه حتى اليوم» وهذا السبق، في تعبيره عن النزعات القائمة، إنما يعني رصد تناقضاتها، حتى ولو كانت الغابة، مثلاً، مهاداً لرواية مثل رواية «الياطر»، فالتناقض، في هذه الرواية، يتخذ أبعاداً شتى، سواء بين بطلها زكريا المرسنلي والمجتمع البحري في مدينة اسكندرونة، أو بين زكريا وبطلة الرواية شكيبة التركمانية الراعية، التي عرفت كيف تفجر الذات الشريرة، فطرياً، لزكريا، وتحوله من نصف وحش إلى إنسان كامل، وشرط هذا التحول يرتكز على حدث معيش، على شخصيات موجودة في الحياة، أو هي نطفات حياتية، نمت واكتملت من خلال الابتكار والخيال والتخييل، ونما، مع نموها، وعيها، والوعي لا يتحقق إلا اجتماعياً، ومن هنا فإن المجتمع، يلعب دوراً اساساً في الرواية. السؤال يبقى التالي: كيف نلتقط أبطال رواياتنا من المجتمع؟ وكيف ينمو وعي هؤلاء الأبطال اجتماعياً، في البيئة التي ينوجدون فيها؟ وما دور التناقض في الوحدة، أو جدلية هذه الوحدة؟ وما هو المنشأ الاجتماعي للابداع الفني؟ سأضرب مثلاً، يعبر، في رأيي، تعبيراً جيداً، في بحثه عن أجوبة لكل هذه الأسئلة، وهذا المثل مأخوذ من روايتي «الياطر» أي مرساة السفينة، وسيكون زكريا المرسنلي، بطل هذه الرواية، في جزئها الأول، النموذج الذي اصطفيه. لقد كان زكريا، في الحياة، شخصاً يدعى أبوخضّور، وكان يعيش في مدينة اللاذقية، عاملاً في بيت يقطر الكحول، وكان يمشي حافياً، متوحشاً، مخموراً بغير انقطاع، أي كان نطفة لا أكثر، وكان الحدث، أو واقعة ظهوره، في مدينة اسكندرونة. وكانت شكيبة امرأة تركية عرفتها في بودابست، ومن كل هذه المواد الأولية، نشأ المعمار الروائي، وبنيت رواية «الياطر» لكنني بنيتها وأنا أعرف بيئة المدينة التي تشكل فيها الحدث، تشكلاً مبدئياً، وبيئة اللاذقية التي رأيت فيها أبوخضور، وبيئة شكيبة، المرأة التركمانية، الراعية، في القرى الواقعة في محيط البسيط، أو في ضواحي اسكندرونة وغاباتها. اضافة إلى ان الحدث، والشخوص في رواية «الياطر» هم البديل الموضوعي لتصوري عالم الغابة الذي أعرفه، وأعرف جو البحر الملاصق له، وعالم السفن والحيتان التي تتبعها، كرمز للاجنبي القادم للاحتلال، وأخيراً معرفتي عالم التحول البشري، من الوحشية إلى الإنسانية، والحب الكبير الذي يسكنني للعيش في مثل هذه الأجواء، وسط حياة طبيعية، بعيدة عن مواصفات المدن وقيودها، ومشاكلها، وتعقداتها، وأجوائها المسمومة، إذا ما قيست ببكرية الغابات، وفضاءاتها العجائبية. رواية «الياطر» لم تظهر فور تفكيري بها، أو بالحدث الذي تنبني عليه. الكاتب آلة دقيقة الملاحظة، مرهف الاحساس، جمّ التجارب، يعيش احداثه وشخوصه عيشاً طويلاً، متصلاً، ثم ترقد هذه الأحداث والشخوص في قاع الذاكرة، تترسب كما المياه، ومثل الناس تهجع، ثم يأتي اليوم، أو المناسبة، التي توقظ حدثاً ما، أو شخصاً ما، كان هاجعاً في الذات، وعندئذ يستدعى من اللاوعي إلى الوعي، من اللاشعور إلى الشعور، ويبدأ في شغل حيزه في الرأس، وسط الكثير من الأحداث والأشخاص التي تحتل مساحاتها في الدماغ نفسه، هنا، في الدماغ، يكون الرحم، وكل الشخوص هم بيوض لاقحة أولاً، وهم أجنة ثانياً، وبشر سوي ثالثاً، ويحدث، كثيراً، أن تموت البيوض والأجنة التي لم تولد وان اكتملت ماهيتها الإنسانية. كذلك تموت الأحداث والشخصيات في ذات الروائي، أما لأنها لا تستيقظ من هجوعها ابداً، وأما لأنها لا تعيش في الرحم، أو لا تعيش حتى بعد الولادة. مكسيم غوركي كاتب روسي شهير، وقد قيل له يوماً: انك عشت الحياة بعمق، ولك فيها تجارب كثيرة، وانك قادر ان تكتب بغزارة، لأن خبراتك وفيرة، فأجاب غوركي: هذا صحيح لكنه خطر.. فإذا لم يكن صاحب التجارب واعياً، مقتصداً بالكلمات والخبرات، فقد يحشر الكثير منها في عمل واحد فيفسده. ان لكل قصة، ولكل رواية، حدثاً واحداً، هو العمود الفقري للسياق، فإذا بنينا الرواية على حدثين، على تجربتين، وقعنا في مطب اغراء التجارب الكثيرة التي نبه إلى خطرها، وحذر منها، مكسيم غوركي! بناء عالم جديد، من خلال الرواية، يتطلب، حسب باختين، مدماكاً روائياً جديداً، فالرواية، في زمننا هذا، هي التي تستشرف المستقبل، وتصوغه فنياً، بدلالة الحدث وحدها.