نعيش هذه الأيام حراكاً بلدياً في كل مدن بلادنا، فالحديث عن البلديات وأعمالها لا يكاد يتوقف، كما أن الحديث عن الانتخابات البلدية ومجالسها يدور على معظم ألسنة المواطنين، وكلٌ يتحدث عن هذا الموضوع بحسب رؤيته للبلديات والأمانات، وطرق تنفيذها للأعمال المهمة الموكلة إليها. وفي هذا الخضّم الهائل من هذا الحراك يظن الكثيرون أن ما يحصل حالياً عمل غير مسبوق في تاريخنا المحلي، وأن الاهتمام بالأعمال البلدية من كل نوع إنما هو نتاج سنوات قليلة ماضية أملته مصلحة البلاد والعباد، كما يظن الكثيرون أن الإصلاح المالي ومحاربة الفساد في الأعمال البلدية إنما جاء متأخراً بسبب ما رأيناه من إهمال شديد في هذا الاتجاه. إن تاريخنا الحديث يؤكد أن اهتمام المغفور له -إن شاء الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل بأعمال البلديات كان متقدماً جداً على كل ما نراه اليوم، بل إن هذا الاهتمام كان واضحاً من جلالته حتى قبل اكتمال توحيد هذه البلاد بسنوات وهذا يؤكد عمق نظرته لأهمية الأعمال التي تقوم بها البلديات خدمةً للمواطنين وتسهيلاً لأمور حياتهم. إن الوثائق الكثيرة التي كان يرسلها جلالته للجد محمد بن عبدالعزيز العجاجي لاتدع مجالاً للشك في عمق رؤيته لأهمية الأعمال البلدية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ومدى استفادة المواطنين منها. وللقارئ الكريم أن يتخيل رجلا بحجم الملك عبدالعزيز وكثرة مشاغله وتعددها لا سيما في بداية تكوين الدولة، كيف أن هذا الرجل العملاق يكتب للجد محمد ست رسائل خلال أربعة أشهر -تقريباً- يناقشه فيها عن أعمال بلدية الأحساء، ويتابع معه هذا العمل بصورة دقيقة جداً!! ففي رسالة للجد والمؤرخة في 7/4/1349ه أبدى له سروره بالتقارير المرسلة من الجد حول البلدية، وكان مما قاله –رحمه الله- «خصوصاً ما ذكرتم عن البلدية وأنها سائرة في عملها على حسب المرغوب فقد سرنا ذلك. ونحن جل رغبتنا أن تكون أعمالها سائرة وفق رغبتنا وكما تقتضيه المصلحة فلاحظوا ذلك». وفي رسالته المؤرخة في 3/5/1349ه كان واضحاً أن يهدف من حرصه على تطوير أعمال البلدية إدخال السرور والراحة على الأهالي... لأن تقدم أعمال البلدية ينعكس إيجابياً على الأهالي كما نعرف. الحرص والاهتمام في كل ما تقتضيه المصلحة للرقي بالمجتمع لكن رسالته –رحمه الله- المؤرخة في 11/6/1349ه كانت أكثر تفصيلاً من سابقاتها، حيث أكد على الجد محمد –رحمه الله- أن يتابع التفاصيل الدقيقة لكل أعمال البلدية، ولكل العاملين فيها أيضاً، وهذا ما يندر أن نراه اليوم. يؤكد –رحمه الله- في تلك الرسالة على أهمية أن تكون جلسات مجلس البلدية متوالية وبحسب النظام الموضوع لذلك، كما أكد أيضاً على أهمية التزام الأعضاء بالحضور لأعمالهم!! لاحظوا هذا الاهتمام ولاحظوا في الوقت نفسه ما يفعله كثير من أعضاء مجلس البلديات في عدم انتظامهم في أعمالهم. نقطة أخرى في غاية الأهمية جاءت في هذه الرسالة وهي تأكيده على أهمية أن تعمل البلدية على تحقيق مداخيل مالية تجعلها قادرة على الإنفاق على أعمالها بنفسها. واللافت للنظر أيضاً أن جلالته - رحمه الله - كان يطلع على تقارير البلدية شهرياً، وهي التقارير التي كان الجد محمد العجاجي يرسلها له باستمرار، وكان يصادق على هذه التقارير ثم يعيدها للجد في الأحساء مرة أخرى، وهكذا يفعل باستمرار، ورسالته المؤرخة في 2/6/1349ه تؤكد ذلك، فقد ورد فيها ما نصه: «ومن قبل البلدية ذكرتم أنكم ملاحظينها، وأنكم لم تزالوا تؤكدون على الرئيس من الحض والاجتهاد كان معلوم، ولا يخفى أن البلدية أمرها يهمنا جدا وأنتم على الدوام اجعلوها على بالكم ويكون سيرها من جميع الوجوه على الوجه المطلوب وطبق رغبتنا وكما تقتضيه المصلحة» وفي رسالته الأخرى بتاريخ 28/8/1349ه أكد فيها على نفس الأمر، وهذا دليل على حرصه الدائم والدقيق على متابعة هذه الأعمال بنفسه وكذلك توجيه من يعمل معه ليكون هو الآخر حريصا على دقة العمل ومتابعته باستمرار. ولعل القارئ العزيز يفطن إلى أننا نتحدث عن فترة مضى عليها قرابة أربع وثمانين سنة، وكان لها ظروفها السياسية والاجتماعية الدقيقة، فالدولة في مراحل تكوينها الأولى، والأنظمة الإدارية لا تزال في بداياتها، ومع هذا كله لم يكن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يغفل عن متابعة الأعمال التي يراها جليلة ويعلم أهميتها للمجتمع بصورة عامة، فكان يراسل الجد في أشياء كثيرة، ويتابع معه كل ما يوصيه على القيام به. إن اهتمام المجتمع هذه الأيام بالبلديات وأعمالها، وبموضوع انتخابات المجالس البلدية، فرصة لكل مواطن في بلادنا ليعرف تاريخ هذه البلديات وكيف أن المؤسس -رحمه الله- كان ذا رؤية دقيقة في تتبعه لدقائق الأمور وجليلها، كما أنها فرصة -أيضاً- لنصحح بعض ما خفي على البعض من بدايات اهتمام الدولة بالبلديات ومجالسها وأنها ليست كما يظنون!!. رحم الله الملك عبدالعزيز، ورحم كل من عمل في خدمة بلاده وأمته، والأمل أن يعمل الآخرون بنفس الروح لنرى أعمالاً تخدم بلادنا ومواطنينا، وتختفي فيها روح الفساد وعفنه لنسعد بحياتنا ونفرح وبمستقبلنا. والله الموفق.