هناك ظاهرة مزعجة ترتب عليها ضياع كثير ٍ من الحقوق، ومؤاخذة البريء بجرم غيره؛ ألا وهي ما لوحظ من إشكالات على بعض الصكوك الصادرة من كتابات العدل على بعض الأراضي... والتي تصل أحياناً إلى درجة ٍ المخالفات الجسيمة التي لا يمكن تجاوزها ولا إقرارها. من المعلوم لكل مطلع ٍ أن الأنظمة والتعليمات والأوامر السامية منذ زمن ٍ طويل تؤكد أنه لا يعتد بالمبايعات والوثائق العادية في إثبات ملكية الأراضي، وأنه يجب على كل مالك ِ أرض ٍ أن يوثق ملكيتها بالطرق الشرعية النظامية لدى الجهات المختصة وهي المحاكم وكتابات العدل ، وذلك إما بطلب حجة استحكام ٍ على الأرض ، وفي حال وجود تلك الحجة فيكون توثيق ما يجري على تلك الأرض من مبايعات عن طريق كتابات العدل التي تتولى إصدار الصكوك بذلك . كما نصت المادة (96) من نظام القضاء على أن: الأوراق الصادرة عن كتاب العدل بموجب الاختصاص المنصوص عليه في المادة ( 93 ) تكون لها قوة الإثبات ويجب العمل بمضمونها أمام المحاكم بلا بينة إضافية ولا يجوز الطعن فيها إلا تأسيساً على مخالفتها لمقتضى الأصول الشرعية أو تزويرها . وبناء ًعلى ذلك فإن كل من اشترى أرضاً من مالكها الذي يحتج على ملكيته لها بصك ٍ صادر ٍ عن كتابات العدل ، ثم وثّق هذا البيع بصكٍ آخر صادر ٍ عن كتابة العدل ، وكذلك كل من دخل بماله مساهماً مع أحد المستثمرين على أرض ٍ صدر عليها صك ٌ من كتابة العدل ، فإن من قام بذلك لا يمكن أن يوصف بالتفريط أو التقصير في إثبات حقه ، فضلاً عن وصفه بالتواطؤ أو المخالفة لأي نظام في حال ثبت وجود أي مخالفات ٍ بني عليها ذلك الصك ، إلا في حال ثبت التقصير أو التفريط أو المخالفة لأسباب خارجية بموجب حكم ٍ قضائي. لأن من أجرى أياً من هذه التصرفات وهي البيع أو الشراء أو المساهمة عن طريق الجهات المختصة ( كتابات العدل ) وصدر له صك ٌ بإثبات صحة تصرفه وملكيته ، فقد انقاد والتزم تماماً بما أمره به ولي ّ الأمر عبر الأنظمة والتعليمات والأوامر السامية التي تؤكد عدم الاعتداد بالمبايعات والوثائق العادية وأنه لا حجية في إثبات ملكية الأراضي إلا بالصكوك الصادرة عن كتابات العدل . وهذا أمر ٌ لا أظنه يخالف فيه أحد وليس محلاً لأي نقاش ، إلا أن هناك ظاهرة مزعجة ، ومشكلة متفاقمة ، برزت في الآونة الأخيرة واستفحلت ، وترتب عليها ضياع كثير ٍ من الحقوق ، ومؤاخذة البريء بجرم غيره ، ألا وهي ما لوحظ من إشكالات على بعض الصكوك الصادرة من كتابات العدل على بعض الأراضي ، أياً كانت درجة تلك الملاحظات ، والتي تصل أحياناً إلى درجة ٍ المخالفات الجسيمة التي لا يمكن تجاوزها ولا إقرارها. فكم من الوقائع التي يفاجأ فيها بعض المواطنين بأنه بعد شرائه لأرض ودفع قيمتها من ماله الذي تعب في تحصيله وجمعه ، أو دخل مساهماً في أرض ٍ مع أحد المستثمرين ، وكان ذلك مستنداً على صك ٍ صادر ٍ من كتابات العدل ، أن يقال له بعد إتمام هذا البيع أو الدخول في تلك المساهمة بمدة ٍ تصل أحياناً إلى عدة سنوات ، أن الصك الذي تم الإفراغ منه ، أو الصك الأول الذي صدر على تلك الأرض ليس نظامياً أو فيه مخالفات ٌ من نوع ٍ أو آخر ، ثم يقال لحامل هذا الصك: إن الصك الذي تحمله لا قيمة له، وتم إلغاؤه ، وعليك الرجوع إلى من باعك ومطالبته بإعادة مالك!. ولعل من أبرز الأمثلة على هذه المسألة الأراضي المشهورة في شمال مدينة الرياض والمسماة ب ( أراضي قيران ) والتي ثبت أن المساحة في الصكوك التي أفرغت سابقا عليها أكبر من مساحة الأرض الفعلية ، ما أدى لقسمة الأرض على حاملي الصكوك بطريق المحاصة ، وهو ما جرى إعلانه مؤخراً في الصحف ، بعد أن ظلت تلك القضية محل بحث ٍ طيلة أكثر من عشرين عاماً ، بقيت خلالها أموال ومدخرات آلاف الملاك والمساهمين من المواطنين مجمدة ً ودون أن ينتفعوا بها . وحين أتحدث عن مثل هذه المواضيع أؤكد أن المقصود بحديثي هم كل من اشترى أو ساهم في أي أرض ٍ بأمواله التي دفعها حقيقة ً وصدر له صك ٌ من كتابة العدل لإثبات ذلك ، أما ما عداهم فلا يتناوله البحث هنا . في مثل هذه القضايا ذهب الكثير من المواطنين حسني النية ضحية ً لتقصير ٍ أو تواطؤ ٍ أو جريمة ٍ ارتكبها غيرهم ، سواء ً كان حامل ُ الصك الأول أو غيره ، وأثبتت التحقيقات تورط كاتب العدل في ذلك . فهل يتوافق مع الشريعة الإسلامية ، ومع قواعد العدالة المتفق عليها في كل قوانين العالم وأنظمته وأعرافه المعتبرة أن يهدر حق ُ هذا المواطن الذي امتثل ما أُمر به من الدولة وبذل غاية جهده في توثيق حقه وملكيته لدى الجهات المختصة ، ليفاجأ بعد عدة سنوات أن الصك الذي يحمله بني على باطل ٍ وأنه ذهب أدراج الرياح ؟!. إن القاعدة المقررة في القضاء الإداري هي مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه ، وهي التي يبنى على أساسها الأحكام بتعويض الأفراد عن الأضرار التي تلحقهم بسبب تصرفات موظفي وعمال الحكومة . وبتطبيق هذه القاعدة على موضوع صكوك الملكية العقارية التي يثبت لاحقاً اشتمالها على مخالفات ٍ نظامية أو تجاوزات ٍ أدت لإلغائها ، فإنه من حق أي متضرر ٍ من هذه المخالفات المطالبة بالتعويض العادل عما لحقه من ضرر ، سواء ً أكان ما خسره من ماله ، أم فات عليه من الانتفاع بالأرض طيلة المدة التي حرم فيها من التصرف ، أو غير ذلك من أضرار ، ويتاح له إقامة الدعوى أمام القضاء الإداري في مواجهة الجهة التي صدر عنها الخطأ أو المخالفة بغض النظر عن مرتكب تلك المخالفة ، سواء ً أكان موظفاً أم كاتب عدل أم غيره ، لأنه لم يرتكب تلك المخالفة باسمه الشخصي ، ولا بوسائله الخاصة ، إنما ارتكبها بما له من سلطة ٍ وصفة ٍ وصلاحيات ٍ منحتها له الجهة التابع لها ، كما أن المواطن الضحية لم يراجع ذلك الموظف أو كاتب العدل ولم يقصده بشخصه ، إنما راجع جهة ً حكومية ً وضعتها له الدولة وألزمته بمراجعتها في مثل تلك الأحوال . وهذه المشكلة بما لها من أبعاد وما تنطوي عليه من أضرار جسيمة لحقت بشريحة واسعة من المواطنين ، تستدعي إتاحة الفرصة الكاملة لهم في التعويض العادل والشامل لكل ما لحقهم من ضرر ، ثم بعد ذلك يمكن للدولة الرجوع على كل من ثبت تواطؤه أو مخالفته ، وتضمينه ما تسبب فيه من أضرار ، سواء ً أكان المالك الأول للأرض أم غيره ممن تواطؤ معه من موظفي الدولة . وقبل أن أختم البحث أشير إلى أنه لفت نظري في قضية الأرض المعروفة ب (أراضي قيران ) من خلال ما نشر في الصحف على لسان أحد أعضاء اللجنة المختصة بها أنه تم تخصيص أرض مقبرة على مساحة مليوني متر مربع ضمن هذه الأرض !. مما يدعوني للتساؤل : ألم تجد اللجنة الموقرة مكاناً تخصصه مقبرة إلا في هذه الأرض التي لحق بملاكها والمساهمين فيها أضرار ٌ جسيمة بسبب ما فات عليهم من مساحات ٍ لأن الصكوك المفرغة فيها كانت بمساحات أكبر من المساحة الفعلية ، مما جعل الحل الوحيد لهذه المشكلة في قسمة الأرض بطريق المحاصة ؟!. أليس ملاك الأرض المتضررون أولى بكل شبر ٍ فيها ، إلا ما لا يمكن قسمته بينهم من الجزء اللازم تخصيصه للمرافق ؟ أعتقد أن التطبيق الصحيح لمبادئ القضاء الإداري يتيح لكل مساهم ٍ في تلك الأرض أو مالك ٍ فيها من حملة الصكوك ، الاعتراض ُ على قرار اللجنة أمام ديوان المظالم والمطالبة بإلغائه إعمالاً للقاعدة الشرعية : " تصرف الراعي على الرعية منوط ٌ بالمصلحة " ولمجموع قواعد الضرر في الشريعة ، وغيرها من مبادئ القضاء الإداري الخاصة بعيوب القرار الإداري . هذه رؤية ٌ شرعية ٌ نظامية اجتهادية لموضوع الصكوك العقارية وإشكالاتها الواقعة حالياً ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه. * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً