(1) ساحلي أنا.. بيني وبين البحر عشق المسافات.. التي قاربت بيننا.. بيننا نبت الحب.. ومن بيننا هرع الموج نحو السواحل.. يلقي عليها التحايا/السؤال أي عشق خرافي زواج الساحل بالبحر؟! والشط بالماء؟! وأنا ساحلي.. كل يوم أتهجى أحرف الماء.. على جسد الرمل.. وأنادي: ياااا أحرف الماء.. صبي على جسد الرمل.. بقايا المراكب.. نبني بها سلماً للحياة!! ❊❊❊ (2) نص شعري قديم كتبته عام 1412ه ، ونشرته في إحدى صحفنا المحلية. يومها كان صديقنا «محمد صادق دياب» يدير العمل الإرشادي في تعليم جدة، ونمت بيننا صداقة مخملية أعتز بها!! تذكرت هذا النص، وأنا أقرأ الفصل الأول من روايته «مقام حجاز» الصادرة حديثاً عن «جداول» 2011م. حيث يقول في مطلعها: «من تزاوج الصحراء بالبحر ولدت مدينة جدة.. ومن فضة الموج جدل أهلها ضفائر حكاياتهم البيضاء» بهذه اللغة الشاعرية، احتشد - نقدياً - بمقولة التناص، وربما يفسر هذا بالتقارب الوجداني والفكري بين الراوي (محمد صادق) والناقد «أنا». ❊❊❊(3) مفاتيح الرواية تبدأ باللغة الشعرية التي ستؤجل قرائياً إلى نهاية المداخلة. لكن المفاتيح التي تكشف النص كثيرة ومنها.. التاريخية: حيث يتجلى ذلك المفتاح من خلال المقدمات والمطالع في بداية كل فصل في الرواية «مثلاً»: «كان حسين الكردي ظلوماً غشوماً يسفك الدماء... نقلاً عن مخطوطة الجواهر المعدة.. للحضراوي ص 15. كان الكردي شديد الوطأة.. نقلاً عن تاريخ مكة للسباعي ص 20 انتصارات سليم الأول وفتح القاهرة عام 1517 ص 27 البرتغاليون يحاصرون البلدة جدة 1514 ص 38 هذه التاريخانية تجذر للحكي وتنقل القارئ من ضبابية الخيال الروائي إلى واقعية المشهد، فالمرجعية التاريخية تقولب عقلية المتلقى فيشعر أنه في حضرة التاريخ وهذه سمة روائية تحسب للمؤلف محمد صادق دياب فهو هنا ينطلق من واقع يعرفه القارئ أو أنه قرب التماهى معه، في حين يدخله في فجائيات حديثة تلغي الجفاف التاريخي وتمنح الخصب السردي أقصى مداه!! وثاني المفاتيح التي تكشف مغاليق النص الروائي هو: النص الشعبي وتوظيفه في السياق الروائي. ذلك ان جماليات الرواية تبدو من خلال هذا التعاضد اللغوي بين نص فصحوي، ونص شعبوي، مما يوحي للقارئ بأن الجو العام للمجتمع الجدي فيه كل هذه الثنائيات. ولذلك فإن الراوي لا يرتفع عن تحقيق هذه المعادلة الأسلوبية. وهنا يورد الراوي العمدة محمد صادق دياب مثل هذه الأهازيج الشعبية وموظفيها في السياقات المختلفة مما يعطي لعمله هذا مبرراً رئيوياً مثل: «انشغل السكال في حفر أساس السور.. وانتظم الجميع في الزومال: سيدي بنى بيته ما علاه ليته ياليته كان علاه» ص 20 هنا يتضح التواشج بين موقف السكان الشعبين الذين تشاركوا في البناء مع لهجتهم الشعبية بالزومال: ومثل: وحينما عدهم دحمان وجدهم أكثر من أربعين رجلاً فتعالى صوته فرحاً: «يا أهل الكرم والرجولة هاتوا السلاح والحقونا وفي ريع كدى تلتقونا وهذه «الشيلة» التي يتغنى بها أصحاب المزمار تتعالق مع مواقف الفرح والفخر والاعتزاز وهو ما يشفع للمؤلف إيراد هذا النص الشعبي في هذا السياق. ومثل: «ليلة طافحة بالفرح عاشتها البلدة ودحمان الصغير يحتفل بزواجه من ابنة عمه سلمى.. وتحلق الناس حول غازف السمسمية: عشقوا جمالك عشقوا جمالك وايش اقول لعيوني ودول عشقوا جمالك؟ حيرت قلبي وفاض بالحيرة ذا العاشق مثلي.. ايه مصيره؟! ومن يتفن فن الاستماع لصاحب «السمسمية» وهي آلة وترية سيدرك أنها ذات لحن بحري يتقنه أصحاب السواحل والشواطئ. وهذا ما يمنح هذا النص الشعبي وثيقة عبور إلى المتن الروائي بإبداع ممزوج باحترافية الجداوي العريق!! أما ثالث المفاتيح وآخرها الذي نكاشف النص من خلاله فهو اللغة الشاعرية التي يستخدمها الروائي الحبيب محمد صادق دياب ويذيبها صحواً. وديباجة، ومضمار لغة حية تتنافى مع جدية النص الروائي، وتتعملق في ذاكرة القارئ المتلقي بكل ايجابية مورقة حد الانتشاء!! انظر مثلاً هذه المقولات اللغوية الفارغة: «فهذه المدينة الأنثى تعودت إذا ما انطفأ النهار وتثاءبت النوارس على صواري المراكب...» لاحظ - عزيزي القارئ - المعاني العميقة التي يحدثها انطفاء النهار، تثاؤب النوارس فأنت الآن أمام لغة شعرية متناسقة!! وانظر مثلاً: «الله أكبر.. الله أكبر فتورق في الدروب سنابل الخشوع»!! وهنا تمعن - أخي القارئ - في الوجدانيات التي تحدثها هذه المفردات التي تتعانق شعرياً وصوتياً ودلالياً كأنها نغمة موسيقية.. السنابل تؤرق خشوعاً.. يا الله كم أنت جميل أيها الجميل!! وانظر أخيراً إلى هذه اللقطة الشعرية في لغة أخاذة ومعبرة يقول محمد صادق دياب: «قالوا انها نثرت ضفائرها على مسارات الريح فركلتها إلى مساقط المطر» وهنا أتساءل هل هذه الجمل شعراً أم نثراً سردياً!؟ وأجيب إنها لغة المحبة والإنسانية التي يتقنها محمد صادق دياب!! ❊❊❊ (4) بقى ان أقول ان رواية «مقام حجاز» لمحمد صادق دياب تتفرد بإبداع فلسفي يتدثر برؤية سيكولوجية تمنحها خصوصية بين باقي الروايات ولعل تخصص المؤلف «العلم نفسوي» إذا صح التعبير له دور في ذلك الإبداع. فالقارئ الواعي للمواقف النفسية لأبطال الرواية يشعر أنه أمام تحليل منطقي نفساني، ويتجلى ذلك من خلال الفصل الأخير الذي لم يحمل الرقم (الخامس) تحت عنوان أبطال الرواية يحتجون على المؤلف. في هذا السياق ينطق أبطال الرواية محتجين على دورهم في النص ويحاكمون المؤلف محاكمة لغوية، فيتسلل إلى المناطق النفسية العميقة فيهم وينطقهم بما يقولون. وهذه تقنية روائية عالية، وجدناها في «سحارة» الغذامي، و«الأيام التي لا تخبئ أحداً، والطين» لعبده خال الأمر الذي دفع ناقداً مميزاً ك «علي الشدوي» ليقول: «هذه الصفحات المتبقية هي شذرات كالخيال الذي بقي في ذاكرة مريضة، شذرات من رسائل لم تكن سوى همسات، شذرات في مفكرة يختبر فيها صلاح قراءته في الواقع لقد كانت هذه الشذرات كالشمس فوق الغابة».. عكاظ الثلاثاء 1423/11/25ه (في طين عبده خال). أما أنا فأقول: ان استنطاق أبطال الرواية من قبل الراوي هي إبداعات تقنية لا يمارسها إلى اولو الطول والحول القصصي والسردي، وبها يبدعون مواقفهم وأحداثهم بكل رحابة وتجليات لغوية!! ❊❊❊ (5) وأخيراً عزيزي القارئ: هذه «جدة» ملهمة الشعراء والمبدعين والقاصين.. تجلت عند «موسى العلوي» في (فتنة جدة) الرواية التي دخلت فضاء البوكر كمرشحة لهذا العام. وسوف تدخل البوكر مرة أخرى مع حبيبنا محمد صادق دياب. هذه جدة - عزيزي القارئ التي تقول عن ذاتها: أنا المدينة الأنثى.. على أرضي هبطت حواء من السماء فكنت مسرحاً لحياتها وحضناً لرفاتها، أنا جدة بكل حركات الجيم.. هذه جدة التي تقول: « المدن كائنات تصمت ولكنها لا تنسى وعلى هذه الصفحات بعض ما فاض من إناء الغليان» محمد صادق دياب