إن مسألة علاقة الفرد بالمجتمع هي مسألة شائكة ، بقيت وستبقى كذلك ، ولهذا قال كولي : « الفرد والمجتمع يولدان معاً « وقال علي الوردي : « الإنسان ليس اجتماعياً كما قال أرسطو ، بل هو اجتماعي وغير اجتماعي في آن « ، أي أن الإنسان لديه نزوع كبير إلى تحقيق فردانيته لايمكن تحقيق انتقال حقيقي من حالة تاريخية بائسة ( = حالة تخلف ) ، إلى حالة أخرى مغايرة / مضادة ( = حالة تقدم ) ؛ دون المرور بحالة الانتقال - عقليا ، ومن ثمَّ تشريعيا - من مرحلة العقود المرتبطة بسياقات التخلف ، كالعقد العِرقي ( = الارتباط العشائري ) ، أو العقد الإيديولوجي ( = الديني بتأويلاته اللاإنسانية ، أو المذهبي ، أو الطائفي ، أو الفكري الدوغمائي ) إلى مرحلة العقد الاجتماعي المدني ، العقد الذي يصنع الإنسان الحر ، الإنسان المتحرر من كل قيود القهر والاضطهاد . كل العقود التي لاتجعل الإنسان الفرد،الإنسان في وجوده المادي الفردي،الوجود المتعين في الواقع حقيقة ، محور اهتمامها ، هي عقود تصنيفية عنصرية بالضرورة ، عقود لا يتغيا فيها التصنيفُ تنظيماً للوجود الفردي للإنسان ؛ بقدرما يتغيا تمييزا تفاضليا بين هذا الإنسان وذاك الإنسان . كل العقود العرقية ، وكل العقود الإيديولوجية ذات البعد الديني ، أو تلك المطبوخة بروح دينية خفية ( كالشيوعية مثلا ) تقوم على فرز عنصري يصنع من أبناء الوطن الواحد أعداء ، يصنع من الشركاء في الرقعة الجغرافية ( = المواطنين ) أدوات للهدم لا للبناء ؛ حيث يشتغل الجميع على اضطهاد وقهر الجميع ، وكل ذلك باسم الدفاع عن الحقيقة الخالدة المتوارية خلف حُجُب الغيب ، أو باسم الدفاع عن المصلحة العامة ، تلك المصلحة المُدّعاة من قِبل كل فريق ، والتي لا تنطبق قوانينها في تصورهم إلا على فريق دون فريق !. كل العقود العِرقية وكل العقود الإيديولوجية هي عقود تصنيفية تفاضلية عنصرية ، وهي بشرية ( من حيث هي بالضرورة رؤية بشرية للواقع مباشرة ، أو للواقع من خلال النص ، أو العكس ) رغم كل ادعاءاتها التي تحاول بها الارتباط بالماوراء الديني ، أو حتى بالماوراء العلمي !. أما العقد الاجتماعي المدني ، ورغم ظاهريته الاجتماعية ، فهو عقد فرداني في جوهره ، يبدأ من الإنسان الفرد ؛ لينتهي بالإنسان الفرد ، أي هو عقد يتشرعن من خلال مجموع الأفراد ، وليس من خلال أوهام متعالية على الوجود الفردي للإنسان . عندما أسهم كلٌّ من جون لوك ، وجان جاك روسو ، وهوبز ..إلخ في صياغة نظرية العقد الاجتماعي ، كانوا يفعلون ذلك وهم يدركون أنهم على مفترق طرق بين تاريخين متمايزين لهذا الإنسان ، بين إنسانين : الإنسان القديم الخاضع لكثير من صور وصِيغ الاستعباد ، والإنسان الحديث الحر ، الإنسان المتحرر باستمرار من صور وصيغ الاستعباد ، والواعي بوجوده من خلال وعيه بحريته التي يتمتع بها في وجوده الفردي الخاص . صحيح أن كل واحد من هؤلاء طرح النظرية ( = نظرية العقد الاجتماعي ) من زاويته الخاصة ، وبما يتوافق مع مبادئه الفلسفية العامة ، إلا أنهم - جميعا - انطلقوا من ، وإلى ، الإنسان . ولهذا ، فقد كانوا حريصين أشد الحرص على صيانة الوجود الفردي ( رغم تشاؤمية بعضهم في رؤيته للفرد ) ، وذلك من خلال النظر إلى العقد كمجال حيوي للأفراد من حيث هم أفراد ؛ رغم كونه صادرا عن حالة اجتماع لا وجود للعقد بدونها ولو على سبيل الافتراض . طبعا ، هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا انبتاتاً عما سبق ، لم يكونوا إلا نتاج ثقافة سبقتهم بأجيال وأجيال . إنهم لم يقفوا في فراغ أو على فراغ ، بل هم ضرورة واقعهم ، وطموح مستقبلهم ، وامتداد لجدل فكري سبقهم ، جدل يمتد وراءً إلى أيام اليونان ؛ حيث أسس السوفسطائيون للإنسان الفرد من خلال التأسيس لمهارة التفكير الفردي الحر ، التفكير المتسائل إلى ما لا نهاية، وبلا حدود ، التفكير الذي يتحرر من الإطار الفكري العام ، بل ويصطدم بهذا الإطار الفكري بأقصى درجات الاصطدام . إن نظرية العقد الاجتماعي ، والتي هي نظرية مدنية لمجتمع مدني ، كانت نتاج تطور واقعي وتطور فكري ، كلاهما ينخرط في الديني بقدر ما ينفصل عنه ؛ بوصفه جزءا من التصور المضاد المحفّز على المواجهة من جهة ، وبوصفه جزءا لا يمكن عزل تأثيره التاريخي القابع في اللاوعي الجمْعي من جهة أخرى . أي أن العقد الاجتماعي المدني ، بقدر ما وُلد من رحم تاريخ ( فكر اقعي ) ، لعب الدين فيه دورا أساسيا في حركتيْ : الفكر والواقع ، بقدر ما كانت الولادة انفصالا لكائن آخر ، كائن له وجوده الخاص والمتميز ؛ حتى وإن حمل جينات الآباء والأجداد . الفكر اليوناني الذي يمثل المنطلقات الأساسية للتفكير الفلسفي ، والذي هو أيضا البداية الواعية للفكر الغربي على امتداد ألفي عام ، لم يكن فكرا منحازا إلى الفرد كفرد ، وخاصة في نظر فلاسفته العظام . لقد كانت رؤيتهم الاجتماعية كليانية ، تتعمد إصلاح المجتمع بواسطة صياغة كل فرد ( = مجموع الأفراد ) في نظام اجتماعي عام . فأرسطو وصف الإنسان بأنه ( حيوان اجتماعي ) ، أي أن انعتاقه من صفة الاجتماع كفيل بتحويله إلى مجرد : حيوان . كما أن المدينة الأفلاطونية الفاضلة ، لم تكن في الحقيقة فاضلة فيما يخص الفرد كفرد ، وإنما كانت مجرد معسكر استعباد ، مجرد معسكر يلغي الإنسان الفرد لصالح المجتمع ، معسكر يسحق التفرد ، أقصد التفرد المتمثل في كل إمكانية متاحة لاستغلال مساحة الخيارات الفردية الطبيعية ، وكل ذلك من أجل رؤية حالمة ؛ تحاول صناعة المُحال بمحاولتها صناعة المجتمع المِثاَل.. لكن ، لابد من التذكير من أن هذه الرؤى الفلسفية المتوارثة ، ورغم كونها كليانية ، إلا أنها لم تكن محض تراكم تقليدي ، بل إنها أنتجت ( من خلال طبيعة الفلسفة ، وكونها في أرقى صورها تفكيرا في التفكير ) هوامشها المضادة ، صنعت ما ينقضها جدليا ، منحت الفرصة للفكر كي يرى ذاته شمولياً قبل أن يتنزل في الواقع . ومن هنا كان السوفسطائيون حركة اعتراض على الكُلّيات المجتمعية والفكرية من خلال موقع فرداني ، من موقع ( حق الفرد ) في ممارسة حقه الطبيعي في الاعتراض . ميزة الفلسفة أنها وإن تمظهرت في مدارس واتجاهات وتيارات متوارثة ، إلا أنها فضاء واسع للتفكير الحر ، بل فضاء يستدعي التفكير الحر ويُحفّز عليه ، فضاء يرفض التقليد ضرورة . بل حتى التقليد في الفلسفة لا يمكن تصوره تقليدا ، التقليد في الفلسفة ( إن جاز تسميته بهذا ) ليس تقليدا بقدر ما هو تراكم وتجاوز وانتقال إلى حركة جدلية الأضداد . التقليد في الفلسفة ليس كالتقليد الذي نراه في الحركات النقلية الاتباعية ذات الطابع التلقيني . أرسطو كان يقول مؤسساً لحق المغايرة والاختلاف ، ومن خلالهما لحق التفكير الفردي الحر : " نحن نحب أفلاطون ولكن الحق أحب إلينا منه " . بينما رمز المدرسة النقلية الاتباعية المتصنم منذ أكثر من عشرة قرون في وعي جماهير الاتباع البؤساء كان يقول : " إن استطعت أن لا تحكّ أذنك إلا ب( أثر ) فافعل " ، وكان الآخر يقول : " احذر من كل قول لم تُسبق إليه " ...إلخ المقولات المأثورة لسدنة حركة التقليد والاتباع . إن هناك فرقا كبيرا بين مجتمعات تقوم على التعبد بمقولات التقليد والاتباع التي تسحق كل إمكانات التفكير الحر الخلاّق ، وبين مجتمعات أخرى ، مجتمعات تشتعل بمقولات التفرد والتمرد على كل الأفكار ، بل وعلى الصور النمطية للتفكير ، تلك الصور التي يفترض أنها تخلق الأفكار . ولاشك أن المجتمعات الأولى هي مجتمعات تصنع الفرد الخانع الذليل الذي يضحي بنفسه من أجل وجود موهوم ، بينما المجتمعات الأخرى تصنع الفرد الحر الذي يصنع المجتمع ، ولكن من خلال الوجود العيني للأفراد ، والذي هو الوجود الحقيقي للإنسان . لقد قام فلاسفة العقد الاجتماعي بطرح رؤاهم الاجتماعية وكأنها تحالفات ناتجة عن الخيارات الفردية ، وخاضعة لمراحل تطور حرية الأفراد . لم يكن المجتمع ( كتصور ذهني عام ) مُهمّاً لديهم إلا بمقدار ما يقدمه للفرد . ولهذا جرى استخدام التاريخ والواقع والطموحات المستقبلية ( بما في ذلك الإصلاح الديني ، وما في المسيحية ، قبل الإصلاح الديني وبعده ، من تدعيم لمسؤولية الفرد بوصفه فرداً أمام الله ) لتدعيم الوجود الفردي ، مقابل النزعات الكليانية الشمولية التي تلغي الفرد كضرورة لوجود مجموع الأفراد ( = المجتمع )!. حتى الفلاسفة الذين جنحوا إلى الكليانية على أية صورة من الصور ، كهيجل الذي رأى أن لا حياة للفرد إلا عن طريق علاقته بالكل ، لم يكن قصدهم إلا رؤية الجزء ( = الفرد هنا ) في سياق الإطار الأشمل الذي يتضح فيه الوجود الفردي ( كما يتصورون ) بشكل أفضل ، ولم يكن قصدهم ذوبان الجزء في الكل ، أي لم يكن قصدهم ( الذوبان ) إلى درجة الانطماس التام . لكن ، ومع أن رؤيتهم لم تكن كليانية تماما ، أو لم تكن كليانية على حساب الفرد ، إلا أنهم لم يسلموا من النقض المتمثل في الاعتراض عليهم من داخل السياق الفلسفي المثالي الذي ينتمون إليه ، أي أنهم - أنفسهم - كانوا جزءاً من جدلية فكرية تستقطب التفكير في مسألة علاقة الفرد بالمجتمع ، المجتمع كوجود عيني لمجموعة أفراد ، وعلاقته ( = الفرد ) بما ينتجه المجتمع من أفكار وأنظمة وتقاليد وأعراف . إن علاقة الفرد بالمجتمع ليست مجرد علاقة بمجموعة من الأفراد ، بل هي علاقة بالسلطة الناتجة ضرورة عن ظاهرة الاجتماع . ومن هنا كان التوتر في الحركة التي تضبط ذلك في الواقع ، كما كان التوتر موجودا في حركتيْ : التنظير والتفسير . إن نقطة البداية لأي تطور يمكن أن يحدث في المجموع ، هي نقطة محصورة في حدود الفرد ، فالبداية لايمكن أن تقفز على الفرد ، ولكنها بعد ذلك لايمكن أن تلغي حقيقة وجود المجموع ، ولهذا كان برتراند رسل قلقا بشأن إمكانية الجمع بين مايمكن توفيره للفرد من حرية فردية تكفل له السبق الابداعي الضروري لحركة التقدم من جهة ، ومايمكن الاحتفاظ به من مُحددّات اجتماعية تكفل التماسك الاجتماعي الضروري لبقاء المجتمع من جهة أخرى . إن مسألة علاقة الفرد بالمجتمع هي مسألة شائكة ، بقيت وستبقى كذلك ، ولهذا قال كولي : " الفرد والمجتمع يولدان معاً " وقال علي الوردي : " الإنسان ليس اجتماعياً كما قال أرسطو ، بل هو اجتماعي وغير اجتماعي في آن " ، أي أن الإنسان لديه نزوع كبير إلى تحقيق فردانيته من خلال التحرر من الأطر المجتمعية ذات الطابع السلطوي ضرورة ، بقدر ما فيه من نزوع إلى تحقيق ذاته من خلال الانخراط في سياق الوجود المجتمعي الذي يمنحه معاني ضرورية ، معاني هي أبعد من وجوده الفردي الخاص..