نواجه في حياتنا اليومية الكثير من المشاكل التي تتطور إلى خصومة، سواء بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الجيران أو زملاء العمل، أو حتى مع المارين بالشارع، فطبيعة العصر وسماته المتسارعة جعلتنا في "ثورة" حسية وعصبية، حتى أن الخطأ البسيط أو خروج كلمة غير مقصودة تثير الشخص المقابل بسرعة!. من خلال هذا التحقيق نتعرف كيف يمكننا أن نتجاهل الخصومة، وتحديداً المشاكل التي قد تتطور مع الغضب إلى خصومة أو قطيعة؟، أو قد تكبر لتصبح قضية جنائية، ونستعرض بعض المواقف التي حصلت وكانت نتيجة لعدم التروي وكظم الغيظ، مع آراء المختصين. الواحد «نفسه في خشمه» على أي كلمة أو موقف «يسويها سالفة»..ويحضر الشيطان و«عينك ما تشوف إلاّ النور» فار الدم بعروقي من داخل أروقة سجن أبها يحكي لنا "العم أبو فلاح" من سكان "طريب" قصته مع عدم "كظم غيظه"، وتصعيده الخصومة مع جاره، حيث يقول: لدينا أرض زراعية ب"طريب"، وفي أحد الأيام أتيت وقد تعدى جاري على حدود مزرعتي، فخاطبته برفق لماذا فعل ذلك؟، ولكنه استفزني بكلامه، مما جعل الدم "يفور" في عروقي وحملت "مساحتي" من بين الطين وهويت بها على رأسه حيث فارق الحياة بساعتها، وأنا الآن محكوم بالقصاص. وأضاف: أنا نادم أشد الندم على ما أقدمت عليه، وأتمنى لو أن اللحظة تعود لكنت تركت المكان ورحلت، ولكنها كانت ساعة غضب رحل فيها الحلم والتروي وغاب منطق العقل، ناصحاً كل شخص يعيش بنعمة وعافية وحرية، آمناً بين أهله وأسرته، بالحلم والعفو عن الناس، وتجاهل المشاكل والتغاضي عنها قدر المستطاع، حتى لا يحصل ما لا يُحمد عقباه ولا يفيد معها الندم أو قول: "يا ليت!". أسلحة بيضاء ومن الحكايات المضحكة المبكية ما نشاهده يومياً بمدارس البنين عقب الإنطلاق من صف الدراسة اليومي، حيث أصبح الشباب يغلون بلا أسباب، بل ولا سبيل للمفاهمة سواء بالأسلحة البيضاء والعصي، يحدثنا "مسعود القحطاني" -المشرف الطلابي بمدرسة الملك فيصل بأبها-بقوله: لا يخلو يوم من الأيام دون أن تحدث مشاجرات طلابية تختلف فيها نوع القضية، فهناك شباب يثور فقط لأن الطالب الآخر ذكر اسم أمه، أو لأنه قلل من شأنه بين زملائه، وهناك مشاحنات بسبب نوع السيارة أو نوعية الصحبة، هذا غير " الفزعات" الجماعية التي يقوم بها أفراد القبيلة الواحدة؛ لإنقاذ أو أخذ حق المنتمي إليهم، مضيفاً أنه يوجد لديهم بالمدرسة مختصون نفسيون واجتماعيون ومشرفون، يعملون كفريق واحد لعمل ندوات ومحاضرات شبابية، يتم فيها توجيه وتقريب وجهات النظر، خاصةً بين المعلمين والطلبة، حيث كثر في الآونة الأخيرة تهشيم سيارات المعلمين بمجرد أنهم لم يعطوا الطالب الفلاني درجات مشاركة، أو لأنه قام بطرد أحد الطلبة من الصف. عينة المشكلجي ويقول "خالد الدوسري" -موظف بنك-: لدي جار وأيضاً زميل بالعمل، هذان الرجلان من النوع العصبي و"المشكلجي"، لا يتحملان أي كلمة أو حركة إلاّ ويثوران ويعملان منها مشكلة كبيرة، لذلك فجميع من يتعامل معهم يحاول أن يكون محتفظاً بهدوئه، وأن يتجنب الأخذ والعطاء معهم بالحديث كثيراً!. ويشير "مسفر الهالك" -متقاعد- إلى أنه شاهد في مجال عمله كسائق للإسعاف بأحد المستشفيات الحكومية، الكثير من الأشخاص متغيري السلوك، حيث كان يمر عليه العديد من المراجعين، فبعضهم تجده حليماً لأبعد الحدود، والبعض الآخر "يُفَوت"، وآخر يرتفع صوته ويصارخ، ذاكراً أنه حدث معه العديد من المواقف، ففي بداية عمله كان يتغاضى كثيراً، ولكن مع تقدمه بالسن وإصابته بمرض السكر، لم يعد يتحمل كثيراً، فأصبح يثور بسرعة، مما جعله يعيد حساباته كلما اختلى بنفسه، متسائلاً: ما ذنب زوجتي وأطفالي بأن يعيشوا على صفيح ساخن؟، مبيناً أنه أصبح يخرج من منزله كلما غضب، ليتجنب المواقف المستفزة، وخاصةً مع الجيران. فروقات فردية ويقول "د.أحمد حسين عسيري" -مختص بعلم الجريمة-: نعلم جميعاً أن النار من مستصغر الشرر، وفي الواقع أن هناك أموراً قابلة للتصعيد إذا ما تم تجاهلها أو التقليل من وقعها والتغاضي عن احتمالية مضاعفاتها، ويعود ذلك إلى التفاوت في الفروقات الفردية والتفكير بين الأشخاص، وبالتالي اختلاف درجة التوقع جراء فعل أو ممارسة ما، مضيفاً أن التقدير الأولي العابر أو السطحي لمن أوقع الفعل تجاه أثره أو ما يترتب عليه، قد لا يكون بتلك الدرجة التي تستوجب الاهتمام، بينما يكون لدى من وقع عليه الفعل مغايراً، بل قد يتجاوز التوقعات كرد فعل صاعق يوقع ضرراً مباشراً في الطرف الآخر، يصل في بعض الحالات إلى ارتكاب جرم ما بحقه. جهل بالأنظمة وأضاف: يقود الجهل بالأنظمة أو عدم اعتبارها من ضمن العوامل المسببة للخصومات القابلة للتصعيد إلى نهايات مؤلمة لكلا الطرفين، ويتمثل ذلك في حال القصور البائن في معرفة طرق التقاضي الشرعية والقانونية التي تكفل سلامة النفوس وإقرار الحقوق، والعمل لدفع الضرر ورد الاعتبار، مما يوجب ومن مفهوم خاطئ أن يكون التصرف الفردي غالباً أو الجماعي أحياناً هو الخيار الأوحد لمشروعية الدفاع، واستعادة الحقوق محل النزاع، حيث تتعقد المشكلة أكبر وتتفرع إلى إشكاليات عديدة لا تحمد عقباها، مشيراً إلى أنه تشكل عدم القناعة بالإجراء الرسمي المتخذ محفزاً للالتفاف على الأنظمة بمبادرات غير المسؤولة، بالتشكيك في سلامة الإجراء والادعاء بعدم تحقيقه للعدالة، ليتم الاقتصاص الشخصي، وتغليب مبدأ أخذ الحق باليد بغض النظر عن العواقب، وفي الغالب يكون هذا الانتهاك في فترة ما بعد الإفراج عبر كفيل ضامن إلى أن يصير موعد المحاكمة، وهي فترة كافية للتخطيط لانتهاك منتظر كرد فعل ما متوقع الحدوث. نزعة نفسية وأكد على أنه في أحيان كثيرة تشكل اللامبالاة وسوء تقدير الموقف لبعض الخصومات البسيطة سبباً غير مباشر، إذ يعمد طرف إلى تجاهل رد فعل الآخر، والناتج عن نزعة نفسية مبالغ فيها وفق درجة التلقي لدى الطرف المتضرر، فتنعكس نفسياً على شكل عمل عدواني بدافع انتقامي غير متوقع، قد يطال النفس أو الممتلكات، لافتاً إلى أنه فيما يتعلق بنهج أو سياسة فرض الأمر الواقع، والذي تمثلها ضغوط اجتماعية أو إجراء صلح غير متكافئ يكون مقنعاً لجهة أو شخص دون الآخر، والاعتقاد جزماً بانتهاء الموضوع، فإن ذلك من منطلق عدم الشعور بالعدالة وإظهار القناعة السطحية لمجرد الإرضاء فقط، كل ذلك قد يكون مدعاة لكبت مشاعر وأحاسيس مغايرة، قد تتفجر في أي لحظة، خاصةً إذا ما صاحبها استفزاز أو تلميح تحريضي بعدم الاعتبار. ضعف في الإدراك ويقول الأستاذ "حسن آل عمير" -مدرب برامج التنمية البشرية-: إن المراقب لأحوال الناس هذه الأيام يجد العجب من تضخيم بعض الأمور وتحميلها أكثر من طاقتها، بل وبذل الجهد والتفكير فيما لا يستحق، لدرجة أن البعض وصل به الأمر للقطيعة والعداء، وعدم تقبل الآخرين، مضيفاً أنه في حقيقة الأمر أن السبب في نشأة تلك الأمور هي تلك الخصومات الصغيرة والبسيطة، والتي قد تنشأ عن ضعف في الإدراك أو في فن الاتصال بالآخرين، فتجد من يقول ما لا يعني ولا يعلم بأنها تفهم من البعض بشكل غير إيجابي، وتقود إلى بعض الإشكالات في العلاقات، داعياً إلى تجاهل الأمور البسيطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي تكون سبباً في المشاحنات والبغضاء والعداوات بين الناس، مشيراً إلى أن قمة السمو الإنساني والنضج النفسي، أن يتجاوز الإنسان الخصومات التافهة ويحاول وأن لا يجعلها تقف عائقاً أمام تواصله مع الآخرين. ثقافة التجاوز وأوضح أن النفس البشرية تمر بأحوال مختلفة خلال اليوم الواحد، وفي مثل هذا الزمن الذي تسارعت فيه الأمور وكثرت الضغوطات قد يزل لسان الإنسان ببعض الأخطاء، وإن لم يكن المقابل صاحب قلب كبير وعقل واع ومدرك، لنتجت كراهية وعداوات قد تؤدي لأمور لا تحمد عقباها، ذاكراً أن الإنسان يحتاج أن يتعلم ثقافة تجاوز بعض الأمور وعدم التدقيق على توافه الأمور، وكما يقول الشاعر: ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وأضاف: "تخيلوا لو وقف الزوج على كل مفردة تقولها زوجته وبدأ يحللها ويفكر فيها وفي مقاصدها، فقد يقوده الشيطان إلى فهم خاطئ وغير جيد وكذلك الزوجة، وانظر للجار الذي يسعى إلى تلافي الخصومات مع جيرانه، كيف يكسب قلوبهم ويجعلهم يألفونه ويحبون التواصل معه، وتأمل ذلك المدير الذي يجعل هدفه الرئيسي تطوير الموظفين وليس تصيد أخطائهم، إنها العقلية الإيجابية العظيمة التي تحفزنا إلى إعطاء عذر للنفس البشرية".