تكاد تتفق أغلب التشريعات القديمة والحديثة على رفض الخطأ وعلى أهمية إصلاح الخطأ. ولكن الاختلاف بين الأمم والشعوب والأنظمة يكمن في تعريف هذا الخطأ، وتحديد مستواه، وطريقة تصحيحه. فعلى سبيل المثال، تعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الزواج مرفوضة عند كثير من الأمم، ولكن هناك من يسمح بها إذا كانت علاقة رسمية معلنة ومعروفة وقد يكون هدفها النهائي هو الزواج. ففي أمريكا، تعد علاقة الصداقة بين الفتى والفتاة قبل الزواج علاقة معترفًا بها عند الأغلبية، وليس فيها خطأ لذاتها بعيدًا عمّا يحدث خلالها. ولكن هذه العلاقة في البلاد الشرقية والإسلامية والعربية تعد - في الغالب- علاقة مرفوضة، وقد يتعرض أصحابها للقتل في بعض المجتمعات مهما كان هدفها. وبالمثل، فإن الكذب في أمريكا يعدّ جريمة يعاقب عليها القانون بصرف النظر عن الهدف منه؛ ولكن هذا السلوك يجد له التبرير في مجتمعاتنا بحجة النسيان أو السهو أو الجهل، وقد يُسوّغ بأنه يهدف إلى النصح والهداية. هذان مثالان بارزان يمكن التعرّف على رؤية الشعوب من خلالهما، على أن الأمثلة التي تكشف عن الاختلافات الثقافية بين الأمم لا حصر لها. ولو دققنا النظر في علاقة الصداقة المتبعة في الغرب، سنجد أن الطرفين مخلصين لبعضهما، ولو خان أحدهما الآخر لانتهت العلاقة، والوالدان على علم بهذه العلاقة ويدعمانها. أما في بلادنا، فهذه العلاقة المرفوضة موجودة، حتى وإن كانت محدودة. وفي هذه العلاقة، تظل العلاقة سرّية محفوفة بالمخاطر، فالفتاة لاتُخبر أهلها بعلاقتها، وربما تتعرّف على أكثر من شاب في وقت واحد، والأمر نفسه مع الشاب الذي يتعرّف على عدد من الفتيات. ولكن، حينما يُقبض على هذين الشابين أو يُعرفان، ففي الغالب يُستر على الفتاة ويُوضع للرجل كمينٌ للإيقاع به في مصيدة؛ ويُقام عليه العقاب وحده، مع أنه لم يكن بوسعه إقامة علاقة دون وجود الطرف الآخر. ولأن هذه العلاقة مشبوهة في نظر المجتمع، فإن آثارها تُلاحق المتزوجين من الشباب ممّن مروّا بتجارب علاقات أو سمعوا بتجارب غيرهم؛ فيظل الزوج مسكونًا بهاجس الخوف من علاقة زوجته، فيراقب سلوكها بشكل مهووس وربما يمنعها من مهاتفة أي رجل مهما كان خوفًا عليها من الانزلاق في علاقة محرمة. وقد تفعل الزوجة الأمر نفسه مع زوجها بسبب خوفها المحموم أن يقع في إغواء الفتيات. وكأن العلاقة بين الرجل والمرأة مطوّقة دائمًا بالخوف من الوقوع في الحرام. والغريب، أن العقل يُصدّق هذه المخاوف، فتجد المرأة لو قُدّر لها الحديث مع رجل في أي موضوع رسمي، فقد تراودها مشاعر عاطفية نحوه. كما يجد الرجل في المرأة التي تتجاوب معه في الحديث صيدًا ثمينًا يمكنه اقتناصه. وعلى هذا، صار الفصل الجنسي حلاً يراه البعض مناسبًا للحيلولة دون وقوع المخاطر بين الجنسين. أما من يمارس الكذب، فنادرًا مايُكتشف لأن الناس لاتهتم كثيرًا بتصيّد الكذّابين، ولكن حينما يكتشف - بشكل صريح - يُكتفى بتوبيخه بأنه رجل لايستحي. وكأنّ الكذب لايجلب أضرارًا ملموسة يمكن العثور عليها كما هي الحال في العلاقة بين الجنسين. وحينما نتأمل مفهوم "المنكر" وهو مصطلح أكثر شيوعًا في مجتمعنا من مصطلح "الخطأ"، نجد أن المنكر مرتبط بالشيء غير "المألوف". ومن هنا نفهم السبب في النظر إلى العلاقة بين الجنسين أو إلى الاختلاط على أنهما من المنكر، في حين لاينظر إلى الكذب هذه النظرة. وتختلف الشعوب في الطريقة التي تتّبعها في تصحيح الخطأ. وهو منهج يبدأ مع الطفل وهو في كنف أمه؛ ومن خلال الأم يتعلم كيف تُصحّح الأخطاء. وفي مجتمعاتنا، تُصحّح الأخطاء - غالبًا - عن طريق العنف، لأنه سريع المفعول وسهل التنفيذ. ونادرًا ما تجد أحدًا يلوم الأب أو الأم على ضرب الطفل أو تعنيفه، وليس لدينا قانون واضح يُجرّم العنف ضد الأطفال من والديهم. أما في أمريكا، فهناك قانون صارم ضد العنف، ولو ثبت أن الأب أو الأم أساء أحدهما معاملة الطفل سواء بالإهمال أو بتعمّد العنف، فقد يفقد حضانة طفله ويلقى عقابًا ينتهي به أو بها إلى السجن. ولهذا، فإن التعامل مع الطفل عند كثير من الأسر الأمريكية يقوم - في الغالب - على الحوار. ويبدأ الحوار مع الطفل بإقناعه بالخطأ حتى يعترف به أولاً، فيحدّد مكمن الخطأ ثم يوضح هو بنفسه الصواب، وبعد ذلك يشرح عن قناعة سبب وقوعه في الخطأ، لينتقل بعد ذلك إلى إقرار الطفل نفسه العقوبة المناسبة لذنبه، بأن يختار مثلا العقاب من ضمن مجموعة اختيارات، تقوم على حرمان من الثواب، كحرمانه لفترة مؤقتة من: اللعب أو من مشاهدة التلفزيون أو من الذهاب إلى جدّته.. إلخ. والواقع، أن هذا النظام لا يمكن تطبيقه مع عائلة مثقلة بعدد كبير من الأطفال كما هي الحال مع الأسرة السعودية، وعائلة مشغولة بالتزامات كثيرة؛ ومن الطبيعي أن يلجأ الوالدان إلى العنف لحلّ أي مشكلة في وقت وجيز. وإذا كنّا قد تربّينا على أن تُصحَّح أخطاؤنا بالعنف، فمن المتوقّع أن نمارس السلوك نفسه عندما نكبر. فحينما يرى أحدنا مايعتقد أنه خطأ، فليس لديه الوقت للتأمّل وفهم الموضوع، وليس لديه الصبر للاستفسار، ولايملك الحكمة لإقامة حوار؛ فيُبادر إلى العنف ظنًا منه أن هذا هو الأسلوب الأمثل لتغيير المنكر. ومع هذا، فإن المنكر الذي نظنّ أنه تغيّر، يتكرر في أشكال مختلفة، لأن آلية التغيير غير فعّالة. إن تصحيح الأخطاء لايمكن أن يحصل بالعنف أو بالمضاربة أو بالشتائم أو بالتهديد، ولكنها عمليّة عقلية طويلة تقوم على الحوار والنقاش الذي ينتهي بالمخطئ إلى الاقتناع بخطئه، إن وُجد، ثم يُصححه بنفسه. وهذه هي الطريقة التي تعطي نتائج صحيحة ودائمة. ولكنها، تتطلب تأهيلا عقليًا ونفسيًا ليس من السهولة تحققه في أي شخص..