يختصر علماء السياسة وفقهاء القانون الدستوري كلمة الديمقراطية بعبارة «حكم الشعب بالشعب وللشعب» كلمة ساحرة وعبارة أكثر سحراً وتحلم شعوب العالم الثالث وفي مقدمتها الشعب العربي في إقامة نظم ديمقراطية تحاكي الديمقراطيات الغربية لما تعانيه هذه الشعوب وتكابده من الاستبداد والاستفراد السياسي وما نجم عنه من قمع للحريات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وبالتالي تحلم هذه الشعوب جماعات وأفراداً أن تحقق حرياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيار المسيطر في ذهنها اليوم هو نموذج الديمقراطية الغربية، ولكن التاريخ السياسي لنمو وتطور الدولة لدى المجتمعات الغربية يؤكد أن تلك الدول قد مرت في عصور طويلة من الاستبداد والاستفراد وعانت شعوبها ونخبها صراعات دامية إلى أن وصل بها الأمر إلى تطوير الدولة وأدواتها وضبطها لسيادة القانون ومن ثم إبداعها لأشكال متعددة من نماذج الحكم الديمقراطي التي تحفظ الحقوق والحريات الأساسية لمواطنيها الذين يلتزمون بواجبات المواطنة وما يرتبه عليهم القانون السيد فوق الجميع. إن عملية التحول الديمقراطي من حكم الاستبداد والاستفراد إلى الحكم الديمقراطي ودولة القانون قد مرت بمراحل طويلة قادت تلك المجتمعات ودولها حكاماً ومحكومين إلى ما هي عليه من نضج المؤسسات الدستورية ونضج المجتمعات ووحدتها بعد تخلصها من ولاءاتها المتعددة الضيقة المتناقضة وانتقالها إلى الولاء الشامل للدولة والوطن والمواطنين، لم تقم الديمقراطية ولم تنجح في مجتمعات لازالت تفتقر لمفهوم المواطنة كما تفتقر دولها إلى مفهوم المؤسسات ومفهوم سيادة القانون، ولذا فإن التحول والانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات المتطورة ومن دولة الفرد إلى دولة الجماعة ومن حكم الاستفراد والاستبداد إلى الحكم الرشيد أو حكم ديمقراطي يحقق سيادة القانون ويحفظ الحقوق والحريات الأساسية إلا بتحقيق شروط هذا الانتقال وهذا التحول، إن إبداع أشكال الحكم المتعددة قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى جاهزية الشعوب لتقبل تلك الأشكال من الحكم، ولم يأت نتاج رغبات خارجية تفرض نموذجها على شعب ما أو دولة ما، لقد نجحت دولة مثل الهند في إقامة نظام ديمقراطي تعددي منسجم مع تعددية المجتمع الهندي الثقافية والعقائدية في حين فشلت دولة باكستان في إقامة نظام ديمقراطي تعددي رغم تجانس المجتمع الباكستاني إلى درجة ما أكثر من تجانس المجتمع الهندي المتعدد العقائد والأفكار، لقد ولدت الدولتان في لحظة واحدة وفي ظروف متماثلة اقتصادياً واجتماعياً ولم تشهد الهند انقلاباً واحداً على الديمقراطية في حين شهدت الباكستان عدة انقلابات أدخلت النخب السياسية في صراعات لم تحتكم فيها للغة القانون في أكثر الأحيان، في حين بقيت النخب الهندية المتعاقبة على السلطة تحتكم لسيادة القانون ولصندوق الاقتراع في الانتقال السلمي والسلس للسلطة. فهل ما تشهده دولنا العربية اليوم هو بداية تحول حقيقي نحو الديمقراطية والاحتكام لسيادة القانون ولصندوق الاقتراع في انتقال السلطة من نخبة إلى أخرى؟ أم هو فشل الدولة العربية في التعبير عن مصالح المجتمع بسبب صراع الجماعات أو النخب السياسية التي لا تتوافق حول الحد الأدنى لمفهوم المصلحة العامة للدولة وللمجتمع، فلكل نخبة ولكل جماعة بل إن لكل فرد من أفراد المجتمع فهماً وتحديداً خاصاً للمصلحة العامة، هذا ما سيدفع الدولة والمجتمع إلى حالة من التناحر وعدم الاستقرار، فبدلاً من تطور هذه الدولة كأداة للتعبير عن مصالح المجتمع وحماية حقوقه وحرياته والمحافظة على وحدته تصبح الدولة أداة غير متفق عليها من حيث المبدأ، وبالتالي تصبح الأزمة أزمة وجود الدولة نفسها من حيث المبدأ كما هو حاصل في أكثر من قطر عربي، وبدلاً من التحول نحو الديمقراطية والحكم الرشيد وحكم سيادة القانون على قاعدة وحدة الدولة والمجتمع يجري التحول نحو حالة من الفوضى وتفكك الدولة تضع الجميع داخل الدولة الواحدة في صراع مع الجميع والنماذج واضحة للعيان، فالأزمة باتت أزمة وجود الدولة في عالمنا العربي لا أزمة نظام حكم. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني مدير عام مكاتب اللجنة الشعبية الفلسطينية