هل يجوز لنا ونحن أمة تحكم بشريعة الله عز وجل ، وفي دولة لا تقبل المساس بكرامة من يعيش على أرضها ، أن نرى الناس لا يطأطئون رؤوسهم ، ولا يقبلون شيئاً من الإهانة في أي موضع أو موقف إلا في ساحات القضاء وأمام قضاة الشريعة ؟ كانت وما تزال وستبقى – بإذن الله – الكلماتُ والتصريحات التي يتفضل بها صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز – حفظه الله – في شتى المناسبات الوطنية مشكاةً يستضيء بنورها الكتاب والمثقفون والدعاة والمصلحون في سائر شؤون الوطن وهموم المواطن ، وما رعى سموه الكريم مناسبة ً أو سنحت فرصةٌ إلا ويسعد المخلصون من سموه بما يُسر ّ له القلب من كلمات تواكب الأحداث وتجيب عن التساؤلات، وتعيد التذكير بما تقوم عليه هذه الدولة المباركة من أسس راسخة متينة . وفي اللقاء الذي تشرف به معالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومنسوبو المعهد العالي للقضاء مع سموه قبل مدة وجيزة كانت الهموم القضائية حاضرةً في الكلمة التي تفضل بها سموه الكريم أثناء اللقاء ، ولم يكن مبعث غرابةٍ ما كشفت عنه تلك الكلمة الكريمة من اطلاع دقيق وشامل على واقع القضاء في المملكة وما يواجهه من إشكالات أو يحتاج إليه من إصلاحات ، إذ كانت كلمة ُ سموه مع إيجازها شديدة التركيز على المسائل الجوهرية المفصلية في القضاء السعودي ، وكأن سموه – وهو كذلك بالفعل – كان يعايش القضاء من داخل أروقته. ففي الوقت الذي تموج بعض الدول بالفتن وعدم الاستقرار والثورات يؤكد سمو الأمير نايف – حفظه الله – على خطورة وأهمية الدور الذي يقوم به القضاء العادل في حفظ استقرار الدولة وقوتها، وصلاح المجتمع ، وحفظ حقوق أفراده . ومن نافلة القول التأكيدُ على أن القضاء لا يمكن له أن يؤدي هذا الدور الخطير إلا وهو قضاءٌ عادل نزيه شفاف لا يشوبه أي خلل ولا يشوه صورته أي ممارسات غير مسؤولة تصدر من بعض المنتسبين إليه . وصلاح ُ القضاء لا يكون في المباني الفارهة أو التجهيزات المتقدمة ، كما أنه ليس في زيادة أعداد القضاة ، أو الموظفين ، ولا حتى في زيادة رواتب القضاة ، مع أهمية هذه الجوانب وتأثيرها البيّن على تطوير مرفق القضاء وتهيئته للقيام بدوره في تحقيق العدالة على أحسن الوجوه ، إلا أن الإصلاح الحقيقي للقضاء يكون في بسط العدل وتيسير الوصول إليه وإزالة كل العوائق التي تقف أمامه ، ومنع الجور بكل صوره وأشكاله ، والوقوف بكل جدية وصرامة في وجه كل تجاوزٍ أو تصرف يشوّه وجه العدالة . لقد وضع الأمير نايف – حفظه الله – في كلمته يده على موضع الجرح ، وشخّص بعين الخبير وفكر البصير أبرز الآفات التي متى وجدت في الجسم القضائي فإنها تؤدي به إلى الهلاك ، وتنأى به عن القيام بأعباء رسالته السامية وتحيله من حصن للعدالة ونصرة المظلوم، إلى أداة قمع وقهر وسبيلٍ لضياع الحقوق وزيادة تمكين الظالم من المظلوم وأخطر هذه الآفات التي أكد سموه على التحذير منها آفتان : أولهما : ما أشار إليه سموه من أن المعهد العالي للقضاء عليه مسؤولية كبيرة في تعريف رجال القضاء وخاصة المستجدين منهم بما يجب أن يكون عليه القاضي وكيفية التعامل مع المتخاصمين والصبر عليهم وعدم الانفعال . ولا أشك ّ أن سموه الكريم لم يقل هذه الكلمات إلا من واقع اطلاعٍ وعلم تام بوجود بعض الممارسات الفردية من بعض القضاة الذين يدعوهم الغضب إلى الانفلات على الخصوم والتصرف بغلظة وفظاظة ويظهر على بعضهم تصرفات كان من الواجب أن يترفع عنها القاضي حماية لجناب القضاء وحفظاً لمهابته . فالقاضي حين يخرج عن وقاره وحلمه يحال بينه وبين الحق، ويغشى على بصيرته عن إصابة العدل ، وهذه حقيقة أكدها المبدأ الشرعي المتقرر أن القاضي لا يقضي وهو غضبان فغضب القاضي وانفعاله يقودانه إلى أن يتحول في بعض الأحيان إلى خصم بدل أن يكون حكماً ، كما أن ما يصدر عن القاضي من أفعال خارج حدود الحلم والوقار والسكينة تحول بين صاحب المظلمة وبين الإفصاح عن حاجته أو الإدلاء بحجته وعندها تُقتل الحقيقة وتضيع العدالة وتعلو راية الشيطان في مجلس القضاء . ومن نفائس ما ورد في وصية أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – المشهورة إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قوله : " وإياك والغَلقَ والضَّجرَ، والتأذَّي بالخصوم، والتنكّرِ عند الخصومات" . إن مما يؤسف له كثيراً أنك حين تطلع على أي قاعة محاكمة في إحدى الدول المتحضرة غير المسلمة ترى من وقار القاضي وسكينته وهيبته ما لا تجده عند بعض قضاتنا الذين يحكمون مستندين إلى شريعة الله عز وجل ، مع كونهم نهلوا من علوم الشريعة وتربوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فما أقبحها من جناية يجنيها القاضي على العدالة والشريعة معاً حين يرتكب مثل هذه التجاوزات التي يمقتها الناس ويمقتون فاعلها. إن مما لا يجوز التراخي في ضمانه للمتقاضين ، حمايتهم من هذه الفظاظة والغلظة التي تقوّض حقوقهم في الإدلاء بما لديهم من حجج وبينات ، والمطالبة بما لهم من حقوق ما لجأوا إلى القضاء إلا لصيانتها وطلب تحصيلها دون تلجلج ولا تعتعة . وإذا كان بعض القضاة لا يملكون التحكم في تصرفاتهم ولا التحلي بالحلم الواجب، فإنه لا ينبغي إقرارهم على الاستمرار للتصدي لأعباء هذا المنصب الشريف المنيف الرفيع . وهنا يبرز لنا الدور المهم الذي يجب أن يؤديه التفتيش القضائي للحد من مثل هذه التجاوزات غير المقبولة ولا المرضية . إنني من واقع تجربتي في القضاء والمحاماة ، ومن إدراك لواقع القضاء وإمكانات القضاة لدينا لا أطالب القاضي – كما ينادي به البعض – بالتبسم في وجوه الخصوم ، أو حتى رد السلام عليهم ، فصاحب المظلمة ليس بحاجة إلى الابتسامة ولا رد السلام بقدر حاجته إلى ضمان القدر الواجب له من حقوق المرافعة الكاملة وسماع كل ما لديه من حجج وبينات ، وإعطائه كامل الفرصة للإدلاء بما يحتاج إليه من دعوى أو دفاع . فإذا ما التزم الخصوم بأدب الجلسة ونظامها فإنه لا يجوز للقاضي أن يسكتهم أو ينهرهم أو يرفع صوته عليهم أو يمس كرامتهم بعبارات يضطر بعضهم في حال ضعف وخوف من سطوة القاضي إلى القبول بها خشية استعداء القاضي وانقلابه إلى خصم وفقدانه لحياده . وإذا كانت هذه الحقوق مقررةً لعموم المتقاضين إلا أنها في حق المحامين أشد وجوباً وأولى ذلك أن المحامي في الأصل من منسوبي العدالة وأعوانها وهو إنما يقوم بدوره الحضاري الشرعي الذي اعترفت به كل أمم الأرض وقدّرته وأسبغت عليه الحماية والتقدير – حتى وإن كابر في الاعتراف بهذه الحقيقة بعض من لم تتسع أفهامهم لإدراك قيمتها – ولا يجوز سلب المحامي هذه الضمانات أو التضييق عليه في أداء واجبه إلا وفق قيدين أساسيين هما :(أن يصدر منه تجاوز لحدود واجبه ، وأن يكون التعامل معه وفق ما نص عليه النظام دون تزيّد ومبالغة) ثم هل يجوز لنا ونحن أمة تحكم بشريعة الله عز وجل ، وفي دولة لا تقبل المساس بكرامة من يعيش على أرضها ، أن نرى الناس لا يطأطئون رؤوسهم ، ولا يقبلون شيئاً من الإهانة في أي موضع أو موقف إلا في ساحات القضاء وأمام قضاة الشريعة ؟ هل يمكن أن تكون الإهانة ثمناً للحصول على الحقوق المضاعة ؟ أو سبيلاً وحيداً للمطالبة برفع الظلم ؟ إنه إن كان هناك موضعٌ يرفع فيه الناس عموماً وأصحاب الحقوق الضائعة خصوصاً رؤوسهم ؛ فلا أجدر ولا أولى أن يكون ذلك في ساحة قضاء يحتكم لشريعة الله عز وجل الذي كرّم بني آدم ورفعهم على سائر مخلوقاته وأسجد لهم ملائكته . وإنه إن كان يقبح بالقاضي عموماً أن يحمله الغضب وقلة الحلم على أن يقتل الكلمة على لسان صاحب الحق ، ويربك المتظلم ويذهله عن الإدلاء بحجته ، فإن هذا القبح يزداد ويتعاظم حين يصدر ذلك عن قاضٍ محسوب على الشريعة وحاكم بنصوصها ومتدثر بعباءتها المقدسة . ومع تأكيدي أن هذه التجاوزات لا يمكن أن تكون هي السمة الغالبة في محاكمنا ؛ إلا أن من غير المقبول تجاهل أصوات الناس التي تعالت، ورواياتهم التي تواترت بالشكوى من وجود مثل هذه التصرفات البغيضة من بعض منسوبي القضاء . وكما كنتُ في مقالات كثيرة ناديت بحقوق أصحاب الفضيلة القضاة والتزمت الذب عن أعراضهم عندما اقتضى الأمر ذلك ، وطالبت بحفظ هيبة القضاء وترسيخ مكانته في نفوس الناس ، فإنني اليوم أجدني محتاجاً إلى الانتقال إلى الكفة الأخرى للميزان لأضع فيها ما يعتدل به الوزن ويقوم به القسط ، بأن أؤكد على ضمان حقوق المتقاضين من تجاوزات بعض القضاة . فقد نرى أحياناً في قاعات المحاكم تجاوزاً ممجوجاً من أحد القضاة لا يكاد يتحدث للخصوم إلا بكل غلظة وفظاظة ، ولا يقبل في أي كلمة يقولها مراجعةً أو مناقشة ، بل ويتعسف في استعمال سلطته أو ما يظنه من سلطته على المتقاضين أو المحامين دون مسوغ ولا سند من شرع أو نظام . حتى استمرأ بعض القضاة هذا الأسلوب واعتادوا على قبول الناس وسكوتهم عنه اضطراراً وخوفاً على حقوقهم ، فإذا ما رأى ذلك القاضي أحداً لا يقبل بهذا التجاوز أو يعترض عليه عدّ ذلك سوء أدب واعتداءً على هيبة القضاء . إنه إذا كانت الدول والحضارات لا تقوم إلا على العدل ، الذي قامت عليه الأرض والسماوات ، فإن من أوجب الواجبات أن نتفقد العدل لدينا ونصونه ، من مثل هذه الأخطاء والتجاوزات . وإن لم يكن في نفوس البعض من تقوى الله ومخافته ما يردعها عن هذا الظلم فليكن في سيف النظام ما يقوّم اعوجاجها ويعيدها لجادتها. والحديث موصول – بإذن الله – مع كلمات رجل الحكمة وحامي الأمن نايف بن عبدالعزيز – حفظه الله – والحمد لله أولاً وآخراً . * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً