كان لي عدة مقالات حول مسألة هيبة القضاء والدفاع عنها ولعل قارئاً يلومني أو يعتقد أني أسهبت في هذه المسألة فوق ما تدعو له الحاجة ، لكنني أؤمن تماماً أن حفظ هيبة القضاء والحرص على رفع قيمته في النفوس وترسيخ مصداقيته مسؤولية شرعية ووطنية تفرضها مصلحة الدولة العليا وأمنها واستقرارها وصورتها كدولة إسلامية تحظى بقضاء عادل نزيه مستقل يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية ، وما تزال الدولة منذ قيامها تعطي للقضاء الكلمة الفصل والحكم النهائي لكل ما يطرأ من نزاعات وخصومات مهما تنوعت درجاتها وأهميتها وخطرها وتعلن أن القضاء هو المرجع والحكم لكل شؤونها . تقع مسؤولية كبرى في حفظ هيبة القضاء وحماية صورته من التشويه والتدنيس على عاتق القضاة أنفسهم إذ ينبغي لهم أن يحرصوا ويبذلوا غاية الجهد في تفويت الفرصة على كل ذي هوى أن ينتقص القضاء بسبب بعض التجاوزات أو الأخطاء تقع مسؤولية كبرى في حفظ هيبة القضاء وحماية صورته من التشويه والتدنيس على عاتق القضاة أنفسهم إذ ينبغي لهم أن يحرصوا ويبذلوا غاية الجهد في تفويت الفرصة على كل ذي هوى أن ينتقص القضاء بسبب بعض التجاوزات أو الأخطاء التي تقع من بعضهم ، وأن يعلموا أن الوقت المعاصر يزخر بكثير من المتغيرات التي يجب مراعاتها والتي من أبرزها ما يحدث من انفتاح إعلامي وحرية في التعبير والرأي والنقد مما لم يعد مقبولاً معه الاستمرار في التساهل بالأنظمة والتعليمات وعلى الأخص نظام المرافعات الشرعية أو غيره من الأنظمة كما كان في السابق ، فإن النظام لم يوضع إلا لمصلحة حفظ حقوق كافة أطراف العلاقة في الخصومة القضائية وأولهم القاضي نفسه الذي يحمي نفسه تماماً من أي نقد أو مساءلة حين يتماشى مع الأنظمة والتعليمات التي ما من شكأنها تهدف لتحقيق مصالح عامة معتبرة وأنه لا تعارض بينها وبين أحكام الشريعة . كما ينبغي على القضاة الاحتساب والصبر على ضغوط العمل وتحمل ما يواجههم من منغصات ومكدرات قد تفقد الحليم صوابه إلا أنهم ينبغي أن يستحضروا أن الأجر على قدر المشقة، وأنهم في ميدان جهاد مقدس وأنهم يقومون على ثغرٍ من ثغور الدين فالله الله أن يؤتى من ناحيتهم . وفي هذا السياق أحب التنبيه على مسألة مهمة هي أن بعض القضاة قد يخلطون بين هيبة القاضي ، وبين قسوته وغلظته وجفائه الذي ليس له مبرر فيضعون السيف في موضع الندى ويظهرون الغلظة والشدة التي قد لا تكون من طبع كثير منهم لما يتصف به في حقيقته من رقة طبع وعطف وكريم خلق ظناً منهم أن التعامل مع الناس برفق قد يُذهب هيبتهم ويُجرئ الناس عليهم وهذا في الحقيقة موضع إشكال يحتاج إلى حكمة ووضع للأمور في موضعها . ومما يعين على استحضار ما ينبغي عليهم في هذا المقام أن يتذكروا أن القاضي المسلم – كما أشرتُ في موضع سابق – مأمور بالعدل والإحسان لا مجرد العدل ، وأن قدوتهم في هذا المنصب الشريف رسولنا صلى الله عليه وسلم القاضي الأول في الإسلام ، وأنه يُنظر إليهم بكونهم يُمثّلون الشريعة فهم من حملتها والدعاة إليها ، وهذه جميعها معان عظيمةٌ تستحق أن يقدر لها قدرها . وإذا كان القاضي مأموراً في العموم بالرفق والبعد عن القسوة والغلظة إلا على المخطئ والظالم والمماطل فإن هناك فئاتٍ من الناس على وجه الخصوص ينبغي اتباع الرفق معهم ومنهم : - من لم يكن طرفاً في خصومة مثل بعض مراجعي القاضي لأعمال إنهائية أو توثيقية . عامة الناس ممن لم يراجعوا القاضي أصلا حيث إن بعض القضاة - وهم قلة - يجفو في تعامله مع جيرانه وأقاربه ومحيطه فلا يقوم معهم بواجب صلة الرحم أو حق الجار أو حق زيارة المريض أو غيرها من حقوق الأخوة الإسلامية ظنا منه أنه يحفظ للقضاء هيبته . - من كان طرفاً في خصومة ولكنه خصم شريف - كما يقال - وهم ممثلو الحق العام من المدعين العامين في هيئة التحقيق والادعاء العام أو هيئة الرقابة والتحقيق حيث يشكو بعضهم من غلظة وجفاء بعض القضاة معهم. - من كان طرفا في خصومة ولم يظهر منه ما يوجب التغليظ عليه بحيث كان متقيدا بآداب الخصومة . - أعوان القاضي الذين لا غنى له عنهم في تسيير العمل القضائي إذ ينبغي أن يسود بين القاضي وموظفيه جو الإخاء والعمل الجماعي المشترك وفق وحدة الهدف . وأن يشعرهم بالتقدير لما يؤدونه من أعمال ويرفق بضعيفهم وينصح المقصر منهم وأن يتفقد حاجاتهم ويتعامل بحكمة مع ما يطرأ عليهم من نقص وقصور في العمل والسؤال عن أحوالهم وإعانتهم على ما يقدر عليه من أمور دنياهم فهم ينظرون للقاضي على أنه قدوة وقائد فإن مما يؤسف له كثيرا تعامل بعض القضاة مع أعوانهم في مكاتبهم بطريقة يغلب عليها القسوة والشدة في غير موضعها ويغيب عنها الحكمة والرفق بل قد يدخل مع أقل موظفيه مرتبة في مشاحنات ومشاكسات ويسيء إليه في مصدر رزقه ويستعجل في استعمال أسلوب الشدة معه عند أدنى خطأ أو تقصير أو حتى ما يتوهمه خطأ . وفي ذات الوقت فهناك بعض فضلاء القضاة تمنعهم الرقة والخلق الكريم من ضبط سلوكيات موظفي مكاتبهم بينما بعض الناس قد لا ينفع معهم سوى الضبط والدقة وعدم التهاون في المحاسبة عند الخطأ غير المقبول حرصاً على حسن سير العمل وأداء حقوق المراجعين كاملة فالتوسط في الأمور كلها هو الخير وكما قيل كل ُّ فضيلة ٍ وسط ٌ بين طرفين . وإذا كان القاضي متصفاً بالرفق والحكمة بعيداً عن الانزلاق في مزالق اللجاجة مع الخصوم والاستجابة لاستفزاز بعضهم – الذي قد يكون متعمداً لتشتيت انتباه القاضي عن الحق – فإن ذلك الرفق والحكمة والهدوء كثيراً ما يعين القاضي إلى الاهتداء للصواب ، وأنه أيضاً يسهم في قبول الخصوم أو بعضهم لحكمه والرضا به . ومن خير ما يُستعان به على هذا الأمر الجسيم أيضاً خوف الله عز وجل وتقواه والإكثار من ذكره والاستغفار في مجلس القضاء . ولعل مما يحسن في هذا المقام أن تسعى وزارة العدل لجمع سير قضاة المملكة السابقين ممن كان لهم قدم صدق في القضاء وسيرة عطرة في ميدانه وتبرز للقضاة الجدد نماذج مشرقة من أخلاق سلفهم لعلها تكون قدوة ومثلًا لهم . وختاماً أسأل الله عز وجل أن يوفق قضاتنا لكل خير وهدى ، وأن يحفظ قضاءنا وشريعتنا من كل معتد .. وما توفيقي إلا بالله هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي السابق في ديوان المظالمم والمحامي حالياً