تعرضت البيئات المدرسية بسبب تحولها إلى سجون فكرية منغلقة إلى نقد كثير خلال السنوات الاخيرة من قبل الصحافة والناس. هناك وصفات كثيرة لكسر هذا السجن وجعل الطلاب والطالبات الصغار يتنفسون هواء الحرية ويستخدمون عقولهم في التفكير والتحليل بدون وصاية وترهيب . ولكن من بين أهم هذه الوصفات التي نغفل أحيانا عن ذكرها رغم أهميتها هي إدخال هؤلاء الطلاب بالواقع الفكري والأدبي والاجتماعي لمجتمعهم , ليس فقط كمتلقين ولكن أيضا كمشاركين . ما أقصده أن الطلاب معزولون تماما عما يحدث في واقعهم من إنتاج فكري وأدبي وتحول اجتماعي، ويبدو الأمر وكأنه لا علاقة لهم فيه ونغضب عليهم بعد ذلك إذا قضوا جل أوقاتهم في ممارسة الألعاب الالكترونية أو متابعة مباريات كرة القدم.. هناك العديد من الكتاب والمؤلفين والأدباء السعوديين الذين يمكن تقديم كتاباتهم وإنتاجاتهم لهؤلاء الطلاب ليس فقط بهدف كسر السجون الفكرية التي حبسوا فيها , ولا أيضا من أجل إثراء خيالهم , ولكن أيضا من أجل ربطهم بالواقع حتى يصبحوا جزءا فاعلا منه. الحقيقة أنهم أكثر المعنيين بكل ذلك لأنهم سيرثون كل ما يجري الآن .لذا من المهم دمجهم الآن حتى لا يجدوا أنفسهم منقطعين، ولا يعرفوا شيئا عن ما يحدث لهم.. على سبيل المثال تدريس مايقدمه المفكر القدير إبراهيم البليهي من مقالات فكرية عميقة بشكل مبسط إلى الطلاب وإدخاله في المناهج الأساسية سيسهم بلا شك في إحداث تغيير كبير في عقولهم . سيتعلم هؤلاء من البليهي أن لايكونوا مبرمجين ثقافيا بحيث يعتنقون كل الأفكار والقيم التي سبقت إلى عقولهم وبدون أن يتشككوا بها ويمحّصوها بالنقد , وهو الأمر الذي تناوله البليهي عبر مقالات مطولة ومتعمقة . درس آخر من إنتاج البليهي عن قابلية واستعداد الإنسان لإنجاز الأعمال التي يعشقها بطبيعته سيساعدهم بلاشك على الوعي بهذه المسألة المهمة . ولكن أيضا تدريس البليهي لا يعني أيضا تقديم ما يكتبه كحقيقة مطلقة , وهذا مالا يريده البليهي نفسه , ولكن الهدف هو جعل الطلاب يفكرون ويشاركون ولا يستقبلون ويؤمنون أو يفرض عليهم الإيمان كما في الماضي . شخصية أخرى هو الراحل غازي القصيبي . هذا الرجل الذي يملك عددا كبيرا من المواهب من الظلم أن لا يعرف عنه الصغار أي شيء . تخيلوا لو تم تدريس أعمال غازي الشعرية والنثرية للطلاب والطالبات. من المؤكد أنها ستسهم بإثراء خيالهم، وتعمق من حسهم الجمالي بالأشياء . كما أن سيرة حياته الناجحة التي اعتمدت على النزاهة والالتزام والجدية وتنظيم الوقت ستعتبر نموذجا ملهما لهم . ولكن مرة أخرى , الحديث عن النموذج المهلم لا يعني التقديس , فالشخصيات التي تنجح بإلهام الآخرين لا يعني أنها خالية من الاخطاء والعثرات , بل العكس فهم بشر بنهاية المطاف يرتكبون الاخطاء ويخفون جوانب مظلمة من شخصياتهم . شخصية ثالثة هي الشيخ سلمان العودة . العودة قدم خلال الأعوام الأخيرة خطابا دينيا مستنيرا يخلو تماما من الأساليب الوعظية السائدة القائمة على الكراهية ولعب دور الضحية وفقدان الإحساس بالواقع والعالم المتحول . يقوم الشيخ العودة بعكس ذلك بالإضافة إلى الروح المتفائلة المتطلعة للمستقبل التي توجه الخط العام لبرامجه سيشرق فهم الصغار للدين وبدل أن يتعاملوا معه كحاجز يتحول إلى حافز . من المفترض أن يرافق كل ذلك إحساس دائم بالتساؤل والنقد وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل عقول هؤلاء الصغار منفتحة وقادرة على تجديد نفسها باستمرار. من جهة أخرى , الكل يدرك مثلا أن لدينا نقصا كبيرا في الخيال الأدبي والحساسية الفنية ليس لأننا نفتقدها ولكننا لأننا لم نجد من يستفزها ويساهم في نموها . بل العكس كان هو الصحيح حيث تم شطبهم . أكثر من ذلك , تم ربطهم بالإحساس بالذنب في كل مرة تتدفق وتحلق مما يدفعنا إلى قمعها معاكسة للطبيعة البشرية . الآن علينا أن نمنح الفرصة للصغار لأنْ يتعقموا بخيالهم اللامحدود من خلال الأعمال الادبية المحلية التي تجعلهم من جهة أخرى يكتشفون أكثر الجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية في حياتنا بطريقة تجعلهم أكثر فهما لواقعهم وكذلك لأنفسهم . على سبيل المثال " شرق الوادي" للروائي تركي الحمد واحدة من أجمل الروايات , كما أن إطلاعهم على أجمل الأعمال الفنية سيكون فرصة كبيرة ترفع من مستوى ذوقهم وتعاملهم مع الأشياء . هناك العديد أيضا من الأعمال الفكرية والأدبية والفنية قدمت على أيدي شخصيات عربية وأجنبية تمثل كنزا كبيرا يمكن استثماره . ولكن هذا المقال يركز على إنتاج الداخل الأمر الذي يسهم في تقريب الطلاب والطالبات في عالم اليوم بدل أن يكونوا مسجونين في غرفة مظلمة في الماضي . مزيج الفلسفة والفكر الديني المتنور والأدب والفن لن يسهم فقط بإخراجهم من هذه الغرفة المظلمة بل سيفتح صدورهم وعقولهم لواقعهم المحلي وللعالم الفسيح .