تعلن الجامعات باستمرار عن أعداد الحاصلين على درجة الماجستير أو الدكتوراه، وتحتفي بتخرجهم كل عام، ولكن تبقى قضية نشر البحوث العلمية معلقة بحسب الباحث، أو الجهة المعنية في الجامعة "عمادة البحث العلمي" حيث لا تزال هناك مئات الدراسات والأبحاث رهينة أدراج كليات الجامعات من دون أن تبصر النور، أو يتم تناقلها بين الجامعات، والاكتفاء بمركز بحثي وحيد "مكتبة الملك فهد الوطنية". وعلى الرغم من تلك الحقيقة التي يعرفها الوسط الأكاديمي في جامعاتنا، إلاّ أن هناك كثيرا من التجاهل لهذه المشكلة التي باتت مؤشراً على تأخر في التعامل مع البحوث الجيدة بنوعيها سواء الأساسية منها أوالتطبيقية، التي من الممكن أن تسهم في تقديم كثير ليس فقط للمجتمع من أفراد، بل لقطاعات العمل الرسمية والأهلية، وهو ما أكده عدد من الأكاديميين والمختصين في الجامعات ومراكز البحث، حيث حمّلوا الجامعات المسؤولية بنشر هذه البحوث؛ للاستفادة منها في إطار رسائل الماجستير والدكتوراه بدل زجها على الأرفف ليلتهمها الغبار ويموت فوق نتائجها قصة نجاح!. د. العسكر: هناك جهات تنفق الملايين على دراساتها من دون تفعيل النشر الاليكتروني ويفرق "أ. د. فهد بن عبدالعزيز العسكر" عميد البحث العلمي وأمين عام كراسي البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بين أن تكون البحوث غير متاحة لأفراد المجتمع ومؤسساته، وأن تكون غير متبادلة. وقال: إن البحوث التي تعد رسائل ماجستير ودكتوراه متاحة، ومن الممكن الإطلاع عليها، إلاّ أننا نطالب بكثير من التوسع في ذلك ونشرها إلكترونياً، بما يضمن وصولها لكافة شرائح المجتمع، وهذا أمر مختلف عن كون هذه البحوث لا يستفاد منها، فعدم الاستفادة هنا عائد إلى القطاعات التنفيذية في الدولة، سواء الأجهزة الحكومية أو القطاع الخاص أو غيره، فهذه جهات تُسأل عن ذلك، وكذلك الجامعات لها نصيب من هذه المسائلة، فعلى الجامعات أن تجيب عن السؤال التالي "هل بحثتم عن حاجة الجهات المهنية سواء كانت الجهات الحكومية أو الخاصة؟، وهل استطلعتم آراءهم وعرفتم المشكلات التي يعانونها وبحثتم من خلال دراساتكم وأبحاثكم ومساعيكم؟"، ثم تسأل الجهات الحكومية والخاصة عن "ماذا عملت في هذه المساعي؟، وهل بحثت عن الجامعات والأبحاث التي تمول دراساتها لقضايا تعنيها؟، وهل استفادت منها أم لا؟". أ. د. سعد الحريقي وأضاف:" للأسف هناك كثير من الجهات الحكومية تنفق على الدراسات مئات الألوف، وقد تصل إلى الملايين، وفي النهاية لا تفعّل، إما لأن تفعيلها يحتاج إلى إمكانات مالية غير متاحة، وفي الوقت نفسه ربما تنفيذ بعض الدراسات قد يحتاج إلى تغييرات إما هيكلية وإما جذرية في بنية المؤسسات، أو يحتاج إلى إصلاحات كبيرة، وهذه الإصلاحات قد لا تكون من صلاحية الجهة التي أجرت الدراسة، أو أنها ستفقدها بعض من مكانتها وقيمتها، أو أن تدخلها في تباينات أو تجاذبات لجهات معينة فبالتالي يصرف النظر عن نتائج هذه الدراسات، على الرغم مما بذل فيها وصرف عليها سواء كانت جهود مالية أو ذاتية فهذه مشكلة". د. فهد الجهيمي مشيراً إلى أن ما يهمل يتمثّل في نتائج الماجستير أو الدكتوراه فقط، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن هناك دراسات مؤسسية ودراسات موجهة تم الصرف عليها لمواجهة مشكلة معينة، وهذه للأسف مشكلة كبيرة جداً تواجه العمل المهني في القطاعات الحكومية والخاصة، فهناك إشكالية في عدم الإحساس بقيمة البحث العلمي ولكن للأسف ليس هناك القدرة لتفعيل نتائجه، وإذا استمرت هذه المشكلة سيكون من الصعب تحسين الأوضاع الجارية، فالجامعات عليها دور كبير في ترسيخ علاقتها بالمستفيدين من خدماتها، مؤكداً ضرورة إيجاد موقع إلكتروني موحد للرسائل العليمة والبحث العلمي بالمملكة، وذلك عن طريق وزارة التعليم العالي أو مدينة الملك عبدالعزيز، فالمراكز موجودة في كل جامعة، إلاّ أننا نحتاج لمزيد من تفعيلها. د. الغامدي: الاستعانة بدراسات أجنبية تجاهل لأبناء الوطن معيار الفائدة المجتمعية واعترف مدير جامعة الباحة "د. سعد محمد الحريقي" أن هناك قصوراً في الوقت الراهن في تبني بعض الدراسات، إلاّ أن كثيرا من الدراسات التي أجريت كان لها النصيب الوافر من النظر في نتائجها وتبنيها، مشيراً إلى أن عدد البحوث التي تقدم في السنة للجامعة الواحدة تختلف من جامعة إلى أخرى، فهناك جامعات قطعت شوطاً طويلاً جداً في الدراسات والبحث العلمي، فكل جامعة بحسب الأقسام والكليات التي تمنح هذه الرسائل فهي متفاوتة حسب طبيعة كل قسم وكل كلية، إلاّ أن عدد الدراسات لابد أنها تصل إلى الآلاف، إضافة إلى الأبحاث التي يجريها الطلبة السعوديون في جامعات الخارج، وغالباً ما تنصب دراستهم على أبحاث علمية لها علاقة بالمملكة. أ. د. فهد العسكر وقال إن البحث الأصيل والموجه الذي يعالج مشكلة معينة هو البحث الذي يمكن أن يستفاد منه، فبعض البحوث تعمل لمتطلبات معينة إما الحصول على درجة علمية وقد لا يحقق هذا البحث مردودا فعليا على المجتمع أو على المشكلة التي يناقشها، وإنما هو لإجراء البحث كمتطلب أكاديمي، ومثل هذه الأبحاث لا تكون جيدة أو أن يكون لها مردود جيد، في حين يوجد نموذج لباحثين يصرون على أن لا يقدموا بحثاً إلاّ حينما يكونوا واثقين بأنه سيكون له مردود علمي، وسيحل مشكلة ومنفعة للقطاع الذي يتناوله؛ ولذلك فإن التقدير الذي يحصل عليه الباحث لا يعطى من أجل ذلك، بل لاعتبارات كثيرة من حيث أدوات وجودة وأصالة المعايير العلمية التي طبقت في عمل دراسة ذلك البحث وهذه قد يحصل عليها الباحث. د. الحريقي: البحث الأصيل والموجه هو الذي يستفاد منه تفاوت البحوث والباحثين ويقول أستاذ الإرشاد المائي بجامعة الملك فيصل "د. محمد حامد الغامدي" إن معظم الأبحاث العلمية في العالم العربي أبحاث غير موجهة، وغير مطلوبة، وهناك أبحاث علمية بحتة مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وهناك أبحاث علمية اجتماعية أو متعلقة بالإنسان، مثل التعليم، وهناك أيضاً أنواع للبحوث حسب تلك المجالات، وإذا كان الهدف النهائي من البحث حل مشكلة قائمة، فإن معظم البحوث في العالم العربي حسب التعريف السابق ليست بحوثا حتى وإن حققت شروط البحث العلمي. وأضاف: "للأسف.. لا توجد بحوث موجهة لتشخيص المشاكل والتحديات أو تحديد الاحتياجات التي تواجه التنمية أيا كان نوعها، بمعنى أن الأبحاث غير مطلوبة من الوزارات والأجهزة المختلفة، بل إن بعض هذه الجهات تستعين بجامعات أجنبية رغم أن لديها باحثين في جامعات الوطن وتتجاهلهم، ما يضطرهم إلى التركيز في أبحاث بقصد الترقية العلمية، فالكل يسبح في عالم مختلف. واشار إلى أن هناك أبحاثا غير مطلوبة، ولا يتم الاستفادة منها، ولكنها جهد ضائع واستنزاف وإهدار لكل شيء، والحل الأمثل هو إخضاع كل صغيرة وكبيرة في التنمية للبحث العلمي، كما يجب أن تكون جميع الحلول مستقاة من توصيات البحث العلمي، وليس الاجتهاد والآراء والخواطر من هنا وهناك، كذلك يجب أن يستفاد من العلماء ومن طلاب الدراسات العليا ومن الباحثين في الجامعات عن طريق جميع القطاعات كل فيما يخصه، ولو تحقق هذا سنجد أنفسنا حتماً في مجال الدول المتقدمة، وحتى يحدث ذلك نحتاج إلى عقول تعي ذلك وكوادر تؤمن بالبحث العلمي وليس الخواطر والاجتهادات!. د. سالم الغامدي نوعان من البحوث ويوضح أستاذ الإدارة الإستراتيجية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن "د. سالم مطر الغامدي" أن البحث العلمي ينقسم إلى نوعين مختلفين، فهناك البحوث الأساسية وهذه البحوث تهدف إلى تطوير العلم من أجل العلم، وأن نزداد معرفة في هذه المجالات وهي بحوث أساسية لا تعالج مشاكل الحياة، أما النوع الثاني فهي البحوث التطبيقية، وهي التي تحاول أن تبحث عن علاج لمشكلة ما في صناعة ما، ورسائل الدكتوراه والماجستير هي إحدى نوعي هذه الأبحاث، فهي إما بحوث أساسية وهي البحوث التي تتقدم الأمم من خلالها وتتطور، أو بحوث تطبيقية وهي البحوث التي تعالج المشاكل سواء كانت في الصناعة وغيرها، وكل البحوث مهمة، إلا أن البحوث الأساسية هي التي تساعد المجتمع على الوصول إلى اختراع جديد؛ لذلك في الغالب رسائل الدكتوراه الجيدة وكذلك رسائل الماجستير يكون الباحث فيها قام باستخراج النافع منها فيتم نشرها، إما في مؤتمرات علمية محكمة أو دورات عليمة محكمة. وقال: هناك كثير من الأبحاث الجيدة التي لم يتم نشر نتائجها في الدوريات أو حتى المؤتمرات، وهنا يكمن الخلل حيث ستبقى هذه البحوث حبيسة الأدراج والأرفف والملفات ولن يطلع عليها أحد؛ لذلك على المكتبات الأكاديمية أن لا تخزّن هذه الرسائل، ولكن عليها مهمة أكبر تتمثل في تصنيف هذه الرسائل بالتنسيق مع الباحثين. الجهد متواصل أما أستاذ التصنيع الغذائي بجامعة الملك سعود "د. فهد يحيى الجهيمي" فيرى أن جزءا من مسؤولية الجامعات إبراز أهمية البحوث التي تعد، إلاّ أن الملاحظ أن هذا لا يحدث بالشكل الكامل، وبالتالي فإن الناحية التدقيقية تكون مفقودة، مشيداً بدور جامعة الملك سعود بالدور الهام الذي تقوم به في الاقتصاد المعرفي، حيث تبرز النتائج التي تحصل عليها من هذه الأبحاث سواء في مؤتمرات أو لقاءات أو نشرات أو أي وسيلة كانت، وربما يأتي أي جهة في القطاع الخاص والعام ليقرر تبني هذا البحث، فإذا لم يكن الجهد متواصلا من الجهتين، فإننا لن نستطيع أن نحقق شيئا من خلال هذه البحوث التي تعدها رسائل الماجستير والدكتوراه، موضحاً أن هذه البحوث إذا لم تدخل في الناحية التطبيقية فإن مآلها إلى المكتبات، أو توضع على الرفوف لتنتهي هناك، فالتواصل لابد أن يكون بين الجامعات وبين القطاع العام والخاص لحماية رؤية النتائج التي تحصل عليه الجامعات من البحوث، وبالتالي تستطيع سواء من دراسة تطبيقية علمية أو دراسة نظرية مجتمعية ونفسية تجد طريقها للتطبيق، داعياً إلى إيجاد قاعدة معلومات متاحة للجميع، بحيث يمكن لأي مختص أن يطلع على جهود أي جامعة على حدة.