** حرصتُ قبل أن أكتب مقال أمس.. ومقال اليوم.. وكذلك مقال الغد وما بعده في هذه الصحيفة عن «كارثة جدة رقم 2» التي وقعت يوم الأربعاء الماضي، حرصت على قراءة الصحف الصادرة يوم الخميس وكذلك القنوات الفضائية لأرى ماذا سيقول المسؤولون في «الأرصاد الجوية.. والمرور.. والدفاع المدني.. والأمانة.. والشؤون الصحية والهلال الأحمر.. وكافة الجهات الإغاثية.. وكبار المسؤولين في الدولة أيضاً.. لأرى الفارق الكبير بين ما رأيته وعايشته ووقعت تحت تأثيره طوال «15» ساعة من الاحتجاز وبين ما يهرفون به.. ويقولون - وهو في أكثره بعيد عن الحقيقة ومجانب للواقع 0. ** وسألت نفسي بعد الانتهاء من القراءة والتأمل: ترى هل يخاف هؤلاء المسؤولون الله فيما يقولون.. أو أنهم يحاولون فقط تبرير قصور أجهزتهم.. وقبل هذا وذاك.. يبررون عجزهم عن التخطيط.. وحاجتهم ال«فكر» من نوع آخر في التصدي للمسؤولية وتحمل الأمانة والصدع بالحقيقة.. وكشف أوجه النقص والعجز لديهم في الامكانات..! أو البشر.. أو المعدات والتجهيزات.. أو في الاعتراف بفقر ثقافة المسؤولية والتعامل مع الناس بمصداقية كافية؟! ** فماذا حدث في الواقع.. وما الذي سمعت وقرأت.. ولماذا الفرق بينهما؟! ** غادرت مكتبي قبل الواحدة ظهراً بعد أن توقفت زخات المطر متجهاً إلى منزلي الذي لا يبعد عن المكتب بأكثر من (10) دقائق.. لكنني لم أصل إليه إلا في الخامسة صباحاً بعد أن أفضل عليّ بعض الاخوة من المتطوعين ورجال الأمن بفك إساري من الاحتجاز مع آخرين.. ** فقد أخذت طريق البحر لأصل إلى الدار بسرعة.. لكنني لم أستطع تجاوز شارع فلسطين لغرق بقية شارع البحر الموازي لقصر الضيافة وتوقفت حركة السير به بعد تراكم مئات المركبات فيه وأحمد الله انني لم أمض إلى نهاية الشارع بل اتجهت يساراً متخذاً شارع الأندلس طريقاً إلى العودة وعند اشارة المرور الرئيسية في الشارع اكتشفت أن مواصلة السير فيه مستحيلة لانهمار السيول القادمة من الجنوب والشرق به وتوقف حركة المرور نهائياً.. مما اضطر جميع المركبات إلى التوجه شرقاً.. لنفاجأ بأن مواصلة السير في نفس الاتجاه مستحيلة بعد أن غمرت السيول شارع حائل وكذلك الشوارع المؤدية إلى المساعدية.. وعندها لم أجد سبيلاً من الالتجاء أنا وسائقي إلى مسجد الملك فيصل الواقع شرق السفارة الأمريكية لأجد فيه المئات من الرجال والشباب والنساء والأطفال وقد نال منهم الفزع والذعر.. ** كان وصولي إلى المسجد واستقراري به في تمام الساعة الثالثة والنصف ظهراً.. لتستمر به اقامتي إلى الخامسة صباحاً عندما قدر الله لي من أخرجني وأعادني إلى بيتي وإن بقي الكثيرون هناك حتى صباح اليوم التالي. ** وخلال هذه المدة حاولت أن أجرب حظوظي للعودة إلى الدار مراراً.. سواء باستخدام سيارتي الكبيرة (جيمس) أو بالسير وسط المياه المتدفقة بقوة إلى منتصف الجسم في ظل مشاهد مماثلة محزنة لسيدات وأطفال من كل الأعمار.. ** كانت الطرق مقفلة في كل من شارع فلسطين وشارع الأندلس وشارع حائل وشارع التحلية ونفق الأندلس وطريق الملك وحي الحوامات وحي الشاطئ طوال هذه المدة لولا فرج الله ونجدة إنسان شهم من المتطوعين سأتحدث عنه يوم غد. ** فماذا حدث لأبرز وأجمل وأرقى أحياء مدينة جدة وشوارعها الرئيسية فضلاً عن أزقتها وحواريها الداخلية؟! ** لقد كان الوضع مخجلاً ومزرياً ومثيراً للسخرية والاستياء على حد سواء من قبل جميع من تعطلت حافلاتهم فصعدوا فوقها.. أو من حاولوا تركها وسط السيول والغوص في المياه الجارفة والمجازفة بأرواحهم نساء ورجالاً وأطفالاً.. أو ممن لجأوا إلى المساجد والدور القريبة ينتظرون فرج الله.. ** لقد «شلت» الحركة تماماً.. لا من جنود المرور ولا من سيارات الاسعاف ولا من فرق الدفاع المدني ولا من أي جهة إغاثية أخرى.. باستثناء طائرة عمودية واحدة كانت تحلق بين شارع فلسطين وشارع الأندلس بهدف الرصد والتصوير وليس بغرض الانقاذ أو المساعدة.. ** وبصرف النظر عن الجوع والعطش.. وبُعد الكثيرين منا عن «أدويتهم» وصعوبة الحصول حتى على دورة مياه.. فإن الشعور بالهلع والخوف كان يسيطر على كل بيت في جدة ولاسيما من احتجز أهاليهم في الخارج ولا من مجيب.. وحتى تلفونات الأجهزة المختصة لا ترد.. وإن رد أحدها فإن الرد لا يتجاوز: ماذا تريدوننا أن نفعل.. فالكارثة فوق الطاقة.. والمناطق المنكوبة فوق القدرة والامكانية والاحتمال ولم يكن أمامنا إلا انتظار فرج الله.. وعونه.. ورحمته.. ** ورغم هذه الحالة التي نحن فيها.. فإن الكثيرين منا كانوا يحمدون الله على اللجوء إلى أحد بيوت الله.. وإلا فإن هناك من هم في وضع اسوأ منا.. بالرغم من تدفق السيول إلى المسجد أيضاً.. ** حدث كل هذا.. فماذا قال المسؤولون لمشاهديهم وقرائهم في اليوم التالي؟.. ** أسأل وأنا أعرف بعد أن وصفت لكم جانباً بسيطاً من المأساة.. ان أكثر سكان جدة يدركون ان غياب جميع الأجهزة الحكومية كان كاملاً.. أو لكن أكثر دقة.. ان عجزهم عن مواجهة الكارثة كان واضحاً.. ** ومع ذلك.. فإن صحف الخميس وقنوات التلفزيون والاذاعات لم تهدأ وهي تكرر تصريحات أقل ما يمكن ان توصف به انها غير صادقة.. وتفتقر إلى الحقيقة عن ادعاء جهود كبيرة بذلت وعمليات انقاذ تمت.. ومستويات عالية من الاستجابة حصلت. ** والحقيقة إن ما حدث هو غير كل هذا تماماً.. ** ولست بحاجة إلى ان أدلل على هذا العجز على أكثر من ان أقول: كيف يمكن لأربع طائرات عمودية ان تنقذ سكان مدينة كبيرة من كارثة مدمرة؟! ** كيف يمكن لأي عمليات إغاثة ان تحدث في ظل إغلاق جميع الطرق بفعل العجز المروري الكامل عن التصرف بحكمة ومسؤولية وبتواجد حقيقي في المناطق المتضررة.. وكذلك في ظل غياب كامل للدفاع المدني والاسعاف وأجهزة الطوارئ؟ ** وكما قلت يوم أمس.. ** إن المشكلة الرئيسية التي نعاني منها هي مشكلة ضعف البنية الأخلاقية قبل عجز البنية التحتية.. مما أوجد أزمة ضمير في البلد سنظل نعاني منها ما استمرت الحال بعيدة عن المعالجة الجذرية الحازمة والحاسمة والجادة. *** ضمير مستتر **(أن تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر.. فإنك تعاني من أزمة أخلاق.. ومن عجز في الفكر.. وفي المواطنة الصادقة).