ساد في الوطن العربي مرحلة أقرب للعفوية الفكرية، حين تخرج المظاهرات في بعض العواصم بشعار (فجروا النفط تدمروا الإمبريالية الاستعمارية) ولا أدري لماذا الربط بين منتج وطني يعيش عليه الشعب، وبين شراكة إدارية وتقنية مع شركات غربية؟.. حدث في كوبا أن الرئيس كاسترو دمر مزارع السكر باعتبارها رمزاً للاحتكار الأمريكي، ولكنه فوجئ بنقص مداخيله المادية، فكان المأزق أكبر من التعبير السياسي، وفي الصين دمرت الثورة الثقافية مختلف المناشط الاقتصادية الوليدة، عندما هُجر المهندسون وأساتذة الجامعات والتكنوقراطيون إلى المزارع والعمل في المصانع وتكنيس الشوارع ونظافتها، لتطهيرهم من الفكر الإمبريالي، فكانت الخسائر هائلة عطلت المشروع الثوري بثورة أقرب للجنون.. بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة اليابان وألمانيا، لم يترك الغرب أياً من البلدين يعيش بؤسه، أو سقوطه بيد الاتحاد السوفيتي، فقد جُمدت العداوات لصالح الأهداف العليا، فتم وضع البلدين المدمرين على لائحة الدعم المادي والتقني ضمن مشروع «مارشال»، وحمايتهما من أي فعل معاكس لشعبهما، وجاءت النتائج داعمة للبلدين فمن العداء إلى سياج الأمن وبناء الحلف الأطلسي وزيادة رقم اقتصادي آخر يضاف إلى الدول الرأسمالية.. انتهى عصر الأفكار المتهورة، فقد دجّن الاقتصاد المتطور للصين الفكر «الماوي» وذهبت روسيا لأن تكون رمزاً مضاداً للشيوعية بفكر قومي مستقل، وحتى فيتنام التي خاضت أشرس الحروب تصالحت مع الإمبرياليين لتكون النموذج الآخر الذي يحاكي صين اليوم، وحليف الأمس، وحتى الثورات الصغيرة التي تنهج بقايا الفكر الاشتراكي في كوريا الشمالية، وكوبا يزحف عليهما فكر سباق التطور العلمي والاقتصادي، فكلا البلدين يجاوران بلداناً متقدمة، ولا بد أن يظل التغيير قادماً بقوة، لأن مفاعيل الزمن غيرت الأفكار الراكدة إلى العملية.. المواجهات القادمة ستكون حرب عقول، لا حرب أيديولوجيا أو جيوش، فمن يملك ناتجاً قومياً متصاعداً، وابتكارات متواصلة، واستثماراً في اقتصاد المعرفة، وتحفيزاً للقوى العاملة بالأداء المتميز، هو من سيدخل سوق المنافسة، إذ لم يعد مبدأ التدمير المتبادل وسباق التسلح بزخم الماضي أو مصطلح الحرب الباردة حاضراً بقوة أمام خصوم اليوم، بل هناك إدراك أن اللحظة في ميزان التطور معيار لحسابات النجاح والسقوط، حتى أصبح عامل الزمن السريع (التغير)، لا يقبل سياسة التصعيد بمبدأ من يدمر الآخر، بل من يتفوق عليه بالسوق المفتوحة وينتصر بحوافز العقل، لا سذاجة العنف العاطفي..