الإسلام رسالة تحمل البشارة والنذارة من تأملها بقلب عقول، ورأي منصف لا يملك الا ان يعجب بها حتى وان لم يعتنقها! انها الرسالة التي تشع نوراً يبهر العقل السليم، والفكر المستقيم، ويرسم خطى الرقي والمدنية بوضوح وشمول وتعاليمه ترسم دائرة انسجام مع الواقع، بعيدة تماماً عن الخيال، وان كانت تحمل التفاؤل، والنظر إلى المستقبل حتى في أحلك الظروف، فهو يرى هذا الواقع، ويفتح باب الأمل، لكنه أبداً لا يرضى الخيال الزائف، ولا الأماني الباطلة. إنه تشريع مناسب لكل زمان ومكان، يراعي حال الأمة والفرد يرفع عنهم الحرج ويضع عنهم الإصر والأغلال، فحملت تعاليمه (واقعية) الاصلاح المناسبة لكل جيل، ولكل طائفة ليقيم مصالحهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، واقعاً لا خيالاً، يقيم البناء على أسس متينة، لا على كثيب من رمال. فالإسلام لا يواجه الواقع بنظريات مجردة، ولا يتعامل معه بوسائل متجمدة!! فلم يكن يوماً ليصطدم بواقعه، بل كان يراعيه في كل أحكامه وتشريعاته، ولهذا كان قادراً على حل كل مشكلات الناس، متسعاً للعالم كله مع تباين أجناسهم واختلاف لغاتهم. ومن واقعيته مراعاته لسياسة التدرج التي يسلكها في معالجة الواقع، مرتباً الأوليات لا يقدم شيئاً على آخر ليستمر - متزناً - في مسيرته الاصلاحية، محدداً الأهداف والغايات، ومرتباً للسبل والوسائل لا يخلط بين هذا وذاك، ولا يتجاوز بالوسائل لتصير في مصاف الغايات والأهداف. ومن المهم جداً في الإسلام ان نفرق بين الغاية والوسيلة وان نعرف ما هي الوسيلة وكيف ينظر لها الإسلام، وهل هي مقصودة لذاتها أم أنها وسيلة كاسمها، لا تراد الا بقدر ما يحقق الغاية المنشودة؟ ومن نظر في القرآن والسنة تبين له بوضوح لا يلتبس على فهم، ان الغاية الكبرى في الإسلام هي ان يوحد الله في الأرض فيقام حق الله على الخلق، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً، وكل ما سوى ذلك فهو وسيلة لتحقيق هذه العبودية. فإن تعجب فعجب ان يغفل عن هذا حملة رسالة الإسلام وهم يعلمون انه أعظم الأديان مراعاة للمقاصد والغايات وتبيين العلل والأسباب التي شرعت لأجلها الأحكام. ان بعض من يتحدثون عن الجهاد في غفلة عن هذا كله، فهم لا يراعون واقعهم الذي يعيشون فيه، ولا يميزون حقيقة الجهاد في أصل تشريعه أغاية هو؟ أم هو وسيلة لتحقيق هدف ما! ولعل من العبث ان نخوض معارك كلامية - كما هي عادتنا - في تقرير ما يسميه الفقهاء قديما بجهاد الطلب، معرضين عن واقعنا وإمكانياتنا، متناسين أننا لا نستطيع ان نستقل عن غيرنا حتى بصناعة قطعة قماش! نحن نعيش واقعاً نعجز فيه حتى عن (جهاد الدفع) إذ لا نستطيع ان ندفع شيئاً عن الأرض والعرض والمال والثروات التي يأخذها منا غيرنا بدم بارد، فما بالنا نستشيط غضباً لتقرير وجوب غزو غير المسلمين في عقر دارهم!! أليس هذا ما يثير الدهشة والاستغراب!! إننا نشاهد دماءنا تسيل وجراحنا تنزف ونحن عاجزون عن وقف نزيف الدم هذا وعن تضميد جراحنا الغائرة في جسد الأمة، في الوقت الذي نملأ الدنيا صراخاً لتقرير مسألة فقهية لا تمت لواقعنا بصلة. إنه من المضحك ان نعيش هذا الواقع الأليم، ونحن نصرخ بأن ما يسمى «جهاد الطلب» ماضٍ إلى يوم القيامة، لا يحل لأمتنا تركه لأنه من أساسيات ديننا. ولعل هؤلاء لا يعيشون على ظهر هذا الكوكب الذي نعيش فيه، إنهم يذكروننا برهبنة المتصوفة الذين كانوا ينعزلون عن مجتمعاتهم ليقضوا الحياة في الكهوف والمغارات فلا يدرون عن العالم شيئاً. إنها إحدى المشكلات التي نعاني منها ان نصدر أفكارنا بهذه الصورة القاتمة التي تجعلنا باسم الدين مصدراً للخوف والقلق والتي يظل غير المسلمين بسببها متوجسين من الرسالة التي نحملها للعالم وبتنا شعاراً للإرهاب، وتطبيقاً له، وواقعاً يثبته. ولا ندري لو سألنا الداعين إلى جهاد الطلب ونبذ العهود والمواثيق بيننا وبين الأعداء الذين يتربصون بنا، ويتآمرون علينا، أيهما أقرب لواقع المسلمين، واحفظ لكرامتهم ودينهم، وأنسب لقدراتهم وضعف إيمانهم وعجزهم وتفرقهم أهو قوله تعالى: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وقوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) أم قوله جل في علاه (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة). إنها آيات بينات في كتاب واحد، ومن مشكاة واحدة، وكلها مدني النزول. إن الأمة الإسلامية تعيش واقعاً أليماً فلو قطع العدو فيه عنها (كيبلاً) بحرياً أو أوقف عنها (قمراً صناعياً) أو ألقى عليها (قنبلة نووية) لهلكت وانقطعت بها السبل وربما استبيحت بيضتها وانتهكت محارمها، وقضي على عقيدتها وعوضاً عن إقامة دين الله، وارغام العدو على دفع الجزية عن يد وهو صاغر لا يبقى للأمة ما تدفعه هي لعدوها عن يد وهي صاغرة! ان واقع الأمة اليوم لا يمكن ان يقال فيه الا كما قال صلى الله عليه وسلم لآل ياسر (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). وكل ما قد يقال لتقرير (جهاد الطلب) لا يعدو كونه خيالاً لا يمت للواقع بصلة، وحتى لو أمكن ذلك ولو في الخيال، فإن ما شرع الجهاد من أجله يمكن فلعله اليوم دونه، فدونك عقول العالم خاطبها، وبلغها تعاليم دينك فضاء فتحه لك الآخر نفسه و(إنترنت) صنعها الآخر ذاته، وتقنية قادمة من الآخر وطائرات ووسائل لم يعد معها حجب الحق ممكناً، فهل بلغناه هل قمنا بحقه، أم أننا بلغناهم عكس ما يراد حتى صرنا شبهة في كل مكان، وخطراً على كل إنسان، يبني العالم فنهدم ويتقدم ونتأخر ويناقش ويحاور ونحن نتقاتل ونفجر ونكفر وذهب الناس بمصالحهم إلى أقصى حد، حتى الشيوعية الصينية باتت تقرع أبوابنا بصناعاتها وتقنيتها، ونحن مازلنا نرى ان قتل المشركين هو الهدف الأسمى لنا! والمصيبة أننا عاجزون عن منعهم من قتلنا، لو أرادوا ومع كل هذا نقول بفم ملآن: ان العقود والعهود والمواثيق الدولية لم يصغها المسلمون، وليست على ما يريده الإسلام!!! وبالتالي لا يقبل ان تكون سداً يحول بين المسلمين وبين الجهاد في سبيل الله!! وهل يريد الإسلام إلاّ تحقيق العدل، وفتح الطريق للعقول والآذان والقلوب ان تسمع الحق بلا بطش ولا تهديد! أليس واقعنا يقول ان بلاد الغرب أكثر حرية في تبليغ الرسالة من بعض بلاد المسلمين.! لماذا لم نسمعه آيات الله وكلامه، وأسمعناهم فقط صوتاً نشازاً يدعو لقتلهم ولتدميرهم، والله يشهد إنا لعاجزون، ولو شئت لقلت كما في نص الآية (والله يعلم إنهم لكاذبون).