تمرّ علينا في حياتنا شخصيّات تترك أثرًا سلبيًا على النفس بمجرد الحديث معها حتى لو كان الحديث عابرًا. ونتساءل عن السبب وراء الكدر الذي يشعر به المرء بمجرد أن يُغلق سماعة الهاتف أو يترك المكان. وحينما نعود لتأمّل طبيعة اللغة التي يستخدمها ذلك الشخص سنجد أنها سلبية، فتجده يتوقّع حدوث الشر والخيانة والنية السيئة والوقيعة من كل إنسان؛ وحتى من يثق بهم فإنه يترقب منهم الفشل والخداع. ولأن هذا الشخص أخذ من وقتنا وتركيزنا، فإنه جعلنا نعيش معه في دائرة تشاؤمه التي تستنزف طاقة الفرد وتقلل من نشاطه وتضعف من دوافعه، وهذا ما يفسر المزاج السلبي الذي يجتاح المرء بعد مقابلة مثل هؤلاء الأشخاص. والواقع أن الشخص المتشائم يرى أن الأحداث السيئة دائمة ومؤذية، ولهذا فإنه يصبح يائسًا ومكتئبًا بسهولة تسيطر عليه مجموعة إحباطات تجعله غير قادر على النمو الوجداني. فتجده فاشلا في حل المشكلات وعدوانيًا وربما يصاب بالاكتئاب. وبسبب سيطرة المشاعر السلبية نحو الأشياء والأحداث وجوانب الحياة بصفة عامة، فإنه يفقد علاقاته الاجتماعية مع الآخرين فينفر منه الناس بسبب مايجلبه لهم من أذى نفسي وفكري، ولكنه يجد في نفورهم ما يُبرّر تشاؤمه فتصطبغ رؤيته للعالم بالسواد الشامل. أعيتني الحيلة -ذات مرة- في التلميح لأحدهم بأن قراءته للأشياء سلبية ومغرضة وناقصة، وأن هناك قراءات أخرى تنطلق من زوايا أخرى لم يرها أو لم يعرفها؛ فقلت له: أظن أن عقلك يحتاج إلى فورمات شاملة لحذف كل مافيه من معلومات وركام معرفي مشوّش. فردّ عليّ بأن نظرتي سوداوية نحوه وأنه يملك جماليات لم ترها عيني ولكن غيري رآها؛ فوافقته الرأي وقلت المثل الشعبي: "الله يقنيه بركتك". والواقع، أن هناك من يخلط بين التشاؤم وبين النقد المعني بكشف العيوب من منطلق أنهما يُعطيان أحكامًا سلبية. ولكن التشاؤم من متغيرات الشخصية التي تتّصف بثلاث سمات هي: الثبات، والذاتية، والشمولية. أي مدى ثبات هذا المتغير مع الشخص في رؤيته للعالم، ومستوى الذاتية التي تعمل على عكس المعطيات الخارجية على الذات؛ ومقدار الشمولية التي تنطلق منها الرؤية. فالشخص الذي يتوقّع فشل مشروع ما نظرًا لوجود مسوّغات منطقية تدعوه لذلك، ليس شرطًا أن يكون متشائمًا إلا إذا تحقق في هذا التوقّع الاعتبارات السابقة، بأن يرتبط توقعه برؤية ثابتة عنده فلا تتغير بتغير المعطى، ونابعة من اعتبارات ذاتية غير مدعومة من خارج الذات، وتتّصف بأنها نظرة شاملة لما يُحيط بالموضوع من أشخاص وبيئة وخلافه. وهناك من يرى أن التشاؤم والتفاؤل ليسا سوى سمة واحدة ثنائية القطب تتدرج من التشاؤم المفرط إلى التفاؤل المفرط، في حين يرى الآخرون أنهما سمتان مستقلتان أحاديتا القطب تتدرج إحداهما من عدم التشاؤم إلى التشاؤم المفرط، والثانية من عدم التفاؤل إلى التفاؤل المفرط. ومع أن التشاؤم من المفاهيم النفسية الحديثة نسبياً التي دخلت إطار البحث المكثف في مجال علم نفس الصحة والتخصصات النفسية الأخرى إلا أنه حظي باهتمام الباحثين من حقول معرفية أخرى لدراسة التوقعات المعمّمة للنتيجة في ثقافة الشعوب، ودور القيم الثقافية في بناء رؤية للعالم تعزز من بناء شخصيات تشاؤمية أكثر من غيرها. وتأخذ دراسة هذا الموضوع منحيين متقاطعين، أحدهما يركز على دراسة الثقافة الشعبية التي تبرز فيها القيم السلبية من خلال الأمثال والنكت والشائعات والتعبيرات السائدة والشتائم واللعائن المستخدمة، والكشف عن تأثيرها في السلوك. والمنحى الآخر هو استطلاع آراء مجموعة من الأفراد لعينات مناسبة ومعرفة ردود أفعالهم تجاه مواقف موحّدة، مع عدم إغفال الجانب النظري الذي يستند إليه الناس في دعم مواقفهم. وباستطلاع بسيط حول ما يُعرف ب"النحس" الذي يتعامل معه بعض الناس في التشاؤم من الأشياء والأشخاص، يمكن ملاحظة أن الخوف من المستقبل الذي يهيمن على الشخصية يمكن ربطه بطفولة غير سارّة مرّ بها المرء مع أمّه حينما كانت تخيّب ظنونه في كل مرّة يبني فيها منطقًا يعرف فيه ردّة فعلها، فتقوم بردّة فعل مخالفة؛ كأن تعاقبه في اللحظة التي كان يترقّب فيها الثواب، أو تكافئه دون سبب يدعو لذلك؛ مما يخلق لديه عالمًا مشوشًا يخلو من المنطق وتسيطر عليه الحيرة والتردد في الحياة. وهذا العالم هو الذي ينتج الشك ويخلق الوجدان السلبي الذي ينتج عنه التشاؤم.