لكم كنت أتساءل -وأنا أستقرئ واقعنا- عن الذات التي يمكن أن نضفي عليها صفة (العلم) ونطلق على المتصف بها (عالمًا)؟ من هو العالم الحقيقي؟ هل يتفق أن نطلق لقب عالم على شخص ما، بسبب معرفته الدقيقة لأسرار مجال معرفي محدد في اللحظة التي لا يتوافر فيها ذلك (العالم) على أقل قدر من المنهجية والموضوعية والرؤية الشمولية؟ ومع ذلك فقد كنت أرى أن الأمر أبعد من وجود هؤلاء العلماء المفترضين في واقعنا، لأن الذي يحدد حضارة ورقي الأمة، ليس مجرد وجود جماعة من العلماء، وإنما هو وجود (الذهنية العلمية) التي يتصف بها أكبر عدد ممكن من المجتمع، والتي لا تعني تفكير العلماء بالضرورة، ولا تنصب على مشكلة متخصصة بعينها، ولا تفترض معرفة دقيقة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، أو أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو التكنولوجية. وإنما هي ذلك النوع من التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا اليومية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس والعالم المحيط بنا، أو في التعامل مع القضايا التي تطرأ على مجتمعنا بين الحين والآخر (على شكل فتاوى دينية في معظم الحالات). أزعم -حقًا- أن حضارة مجتمعنا تحققها -قبل كل شئ- العقلية العلمية الجمعية التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة! العجيب -حقًا- هو بعد المسافة بين المستوى الرفيع لتلك العقلية العلمية لتراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية التي سبقت النهضة الأوروبية الحديثة بقرون، والمستوى المتدني جدًا لذهنية التفكير في الزمن الراهن الذي نظل نتجادل فيه حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية من خلال موضوعات مبتذلة (الاختلاط-الغناء-الموقف من الفنون والمعارف الحديثة..)، ولو ظل خط التقدم متصلًا منذ ذلك الزمن الذهبي لكنا قد بقينا في (الصدارة) إلى الآن، كما أن الأمر الآخر المثير للدهشة هو وجود أطياف كثيرة في مجتمعنا لا تكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد في اللحظة التي تستميت تلك الأطياف في مقاومة شواهد العلم ومخرجات الذهنية العلمية الصحيحة المنتجة! وبالتالي فإن السؤال الحاسم -بداية وتأثيرًا- هو: هل نمتلك تلك الذهنية العلمية وما هو قدر نصيبنا منها؟. هذا السؤال حسمته قطعًا المجتمعات التي تحتل موقع الصدارة بين بلاد العالم منذ أربعة قرون على الأقل، علمًا بأن ذلك الحسم كان في بداية تحققه شاقًا بوجود مقاومات عنيفة متوقعة، ولكن هاجس الرغبة في إثبات الوجود اكتسح كل عناصر المقاومة، مع أن العلم ليس قوة معادية لأي شئ، والذي يمتلك العقل العلمي لا يهدد أحدًا ولا يسعى للسيطرة على أحد، ولكن ذلك يظل قدر العلم والحضارة معًا؛ لأن كل المعارك التي حورب فيها ذوو العقول العلمية كانت معارك أساء فيها المعارضون الفهم، أو افتعلوها لحسابات نفعية خالصة. هل تريدون أن نستقرئ سويًا سمات تلك الذهنية العلمية لنقارب بها واقعنا، ونجعل منها معيارًا نقيس به مقدار (صحة) أي نوع من التفكير الذي يقوم به الإنسان داخل مجتمعنا: 1- التراكمية: المعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقًا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء ينتقلون دائمًا إلى الطابق الأعلى، وتفضي هذه السمة إلى نسبية كل الحقائق وتعدديتها وتحولاتها وقراءاتها المتغيرة. فثبات المعرفةالعلمية لأي علم، والاعتقاد بأنه وصل حد الاكتمال لا يعني إلا نهايته وموته. 2- هاجس النظام والمنهج: الذي لا يدع أفكارنا تسير حرة طليقة، وإنما نرتبها بطريقة محددة بحثًا وراء (نظام) ما يضبط عشوائية الظواهر، من خلال إتباع (منهج) محدد يعتمد على خطط مناسبة تقود العمل لمخرجات صحيحة غالبًا. 3- السببية، فالنشاط العقلي للإنسان لا يكون علمًا إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها. 4- الشمولية واليقين: فالمعرفة العلمية شاملة، بمعنى أنها تنطبق على جميع أمثلة الظاهرة التي تبحثها الذهنية العلمية، بل ويجب قراءتها دائمًا بشروط واقعها الراهن في كل مرة. كما أن العمل العلمي لا يوجد ارتباط عضوي بينه وبين جميع العوامل والظروف المتعلقة بكيفية نشأته، والشخص الذي ظهرت على يديه، وعلى ذلك فإن المنتجات العلمية قابلة لأن تنقل إلى كل الناس، بكونها حقائق عامة ومشاعة ومستباحة، تصبح بمجرد ظهورها ملكا للجميع متجاوزة النطاق الفردي الذي يغلب جوانب الحدس والظن والإحساس الداخلي. وبعد، فهل يوجد لدينا من تتوفر لديهم تلك السمات..علماء أو مثقفون (في المجالات الفكرية والفلسفية)؟ أما إذا كنا قد اتفقنا على منح تلك الصفات لعلمائنا بشروطنا المحلية وهويتنا المزعومة، فذلك شأن آخر (يخصنا) ولكنه يلفظنا بعيدًا عن (عامة) الشواهد العلمية الخالصة. فثمة عقبات لم نستطع التغلب عليها، والتحرر منها لنسلك سبيل التفكير العلمي المنتج للحضارة، ومنها (التفكير الأسطوري الخرافي) الذي يقدم في إطار بدائي وبسيط تفسيرًا متكاملًا للعالم بلا جهد، و(الخضوع لسلطة الرموز) الذي يعد أسلوبًا مريحًا في حل المشكلات، ولكنه ينم في اللحظة ذاتها عن عجز وافتقار مرير للروح الإنسانية الخلاقة. ومن العقبات التي استسلمنا لتأثيرها السلبي ظاهرة (التعصب) التي هي اعتقاد باطل يحتكر فيه المرء الحقيقة أو الفضيلة لنفسه دون الآخرين، الذين هم دائمًا في عرف التعصب مخطئون أو خاطئون لتنشأ في الفضاءات المتعصبة أشكال التطرف والإقصاء. وأخيرًا فمتى ما بدأنا حقًا بالتخلص من تلك العقبات، فإننا نكون قد بدأنا أولى الخطوات على طريق التفكير العلمي الصحيح المنتج للحضارة.. ولكني أخشى أننا إلى الآن لا ندري بأن تلك (العقبات) هي (عقبات) فعلًا، وبأنها قيم سلبية يجب التحرر من أتونها مباشرة! [email protected]