أعود إليكم بعد عام مضى، مر كقطار سريع، استقله بشر كل له غايته، وتوقف في محطات تفاوتت ألما وأملا، واعترت قضبانه نتوءات كادت أن تحول مساره، وأن يهوي في واد سحيق. ودعونا نبحر في يم لا يعوم فيه سمك قرش مجهول الهوية: 1) حز في النفس ظاهرة التلاسن حيا على الهواء بين رجال ونساء، وعلماء ودهماء، وتلوثت الصحف بردود خرجت عن إطار الذوق الرفيع ونزلت إلى قاع السباب، وربما القذف، والنتيجة صخب وإزعاج؛ فضاعت الحقيقة في عجاج المعركة، وغبار التمرغ، فاحتار المشاهد والسامع والقارئ بين عالم فقد وقاره وامرأة استرجلت في طرحها، وكاتب استمرأ تتبع العورات وتشييد أهرامات من عبارات أسيرة في مخيلته تختصر لهاثه نحو لفت الأنظار. من المؤسف حقا أننا نملك وسائل إعلامية لكننا لا نملك إستراتيجية إعلامية، نملك حضورا لكننا لا نحسن حوارا، ويبدو أن تربيتنا لم تقم على أساس تعدد وجهات النظر واحترام الرأي الآخر والنقاش المتعقل الرزين داخل البيت مع الأبوين والأخوة والأخوات وفي المدرسة مع المعلمين والمعلمات. لقد دعوت إلى اعتماد مقرر "أدب الحوار" في التعليم العام، و" أدب المناظرة" في التعليم الجامعي بغية تدريب الطلاب على حسن الإنصات وترتيب الأفكار وجمال الأسلوب والقدرة على الإقناع. لعل جيلا جديدا ينشأ على الحكمة في الطرح، وسعة الأفق في النقاش، وتقبل الرأي المخالف بود ورحابة صدر. 2) يذكرني نظام "ساهر" بالطير الأخضر الذي كان يشكل خوفا في نفوس الأطفال، وكثيرا ما كانت أمهاتنا يرددن اسمه عندما تكتشف الأم خطأ اجترحه طفلها ليشعر دائما أنه مراقب من قبل هذا الطير الذي لا يرى وبالتالي يقلع عن المشاغبة لا اقتناعا بل رهبة من هذا الجاسوس الافتراضي. كنت أتمنى لو جاء " ساهر" بعد أن نجح تعليمنا في تعويد تلاميذنا وتلميذاتنا الدخول والخروج من المدارس بنظام، وبعد أن يوقف المعلمون سياراتهم بانتظام، وبعد أن تسري ثقافة " السرا أو الوقوف في المسار" في نقاط البيع والعمل والجهات الخدمية، وبعد فترة تجريبية وتوعية تطبيقية عبر وسائل الإعلام تعتمد على اللسعات غير القاتلة ولفترة نصف سنة مما يعدون بعدها تطبق المخالفات بصورة تصاعدية بمعنى أن المخالفة الأولى تسقط غرامتها إذا لم يلها مخالفات أخرى خلال ستة أشهر. أما الذي يخالف أكثر من ثلاث مرات في الفترة نفسها فتضاعف الغرامة أضعافا مضاعفة. وإذا تجاوزت المخالفات في السنة الواحدة عشرا يمنع قائد المركبة من القيادة. ولكن يجب أن نفرق بين مخالفات في المدينة التي يقطنها المخالف وتلك التي تمت خارجها. الأمر الذي أود الإشارة إليه أن نظام ساهر ينبغي أن يكون معينا على تطبيق القانون لا نظام جباية يسلك مسلك المباغتة للإيقاع بفريسته، وليس من المنطقي أن تكون المسافة بين لوحة تحمل(90) وأخرى تحمل (40) أقل من خمسين مترا؟؟ كمنحى طريق التخصصي نحو الدائري الشرقي، وليس معقولا أن تلتقط لوحة السيارة المخالفة ثلاث مرات في كيلو متر واحد؟؟. لماذا لا يستفاد من لوحات الشوارع والطرق الكبيرة لتبيان مقدار السرعة؟؟. لقد بدأت معاناة السائقين مع كفلائهم، فلوحات السرعات تحمل أرقاما محلية لا يفقهها الأجانب، والعقود المبرمة بينهم لم تشر إلى تحمل السائق غرامات الطريق. والكفيل لن يتحمل السائق وهذا يحدث مشكلة قد تؤثر على استقدام السائقين وتكاليفهم. وجريا على عادة العرب في البحث عن مخارج هروبا من تطبيق النظام كثرت في الآونة الأخيرة سرقة لوحات السيارات أو تركيب لوحات خليجية ملغاة، أو طمس اللوحات بمادة أو خربشات أو مسامير.. وتلخيصا لما ذكر آمل من القيمين على "ساهر" تكليف باحثين متخصصين لتقييم المرحلة الأولى بأخطائها، وإعادة النظر في قيم المخالفات بحيث تكون المخالفة الأولى خمسين والثانية مائة والثالثة مائتين والرابعة ثلاثمائة وتثبت عند هذا الرقم فيما بعد ويكون السداد في مدة أقصاها ستة أشهر، كما آمل أن يقدم القيمون على هذا النظام خدمة عبر إرسال ايميل يوضح تفاصيل المخالفة وكروكي الموقع بالعربية وصورة السيارة لحظة ارتكاب الخطأ. ولا يكلف الأمر شيئا. إن هناك شريحة كبيرة في المجتمع من كبار السن، وسكان البادية، والقرى النائية وغيرهم ممن لم يسجلوا أرقام جوالاتهم في نظام ساهر وربما ارتكبوا مخالفات أثناء مرروهم بالكاميرات دون أن يعلموا فتتراكم عليهم " الديون" وهم لا يشعرون، والكارثة عندما يفاجأ واحد منهم بحجم "الغرامة" ماذا يصنعون؟؟ 3) عندما كنت في فرنسا لم أر في المنازل خدما بل عاملات أو عمالا بموجب ساعات عمل محدودة بما لا يتجاوز الساعة الثامنة مساء. وعندما نحدثهم عن حالات الخادمات في البيوت السعودية والخليجية يدهشون منها ويعتبرونها من أساطير ألف ليلة وليلة. رغم أن هذه الظاهرة لا تخص الفئة المخملية بل إن أسرا سعودية تستمد مصروفها من الضمان الحكومي أو الصدقات أو الزكوات لديهم خادمات جئن إلى البلاد بعقود مطاطة أو بدون عقود واختلطت الأوراق بين الواجبات والحقوق، وترتب على هذا الوضع ظلم وظلمات ومشكلات وضاعت تربية الأطفال بين الخادمة والسائق وترهلت النساء واستجدت أمور لم تعرفها أسرنا من قبل، وحتى لا ينفجر الوضع وقد بلغ مداه يجب أن نفتح المجال للقطاع الخاص لتأسيس " شركات استقدام" تتنافس على تقديم الخدمة بصورة حضارية ومن خلال نظام الساعات وسوف يؤمن هذا النظام آلاف الفرص الوظيفية للفتاة السعودية في العمل داخل مجمعات العاملات وتوزيعهن على الأسر بأسلوب يضمن جودة العمل وحقوق العاملة والأسرة المستفيدة على أن لا يتجاوز وقت عودتهن إلى مكان إقامتهن العاشرة ليلا. 4) ابتهج المواطنون بإلغاء شرط الأرض للحصول على قرض من الصندوق العقاري ولكن المشكلة تكمن في الحصول على أرض داخل نطاق الخدمات في وقت لا توجد فيه منح . ولا أحد يراهن على نجاح فكرة الصندوق والدليل هذه المدن الكثيرة التي قامت بفضل سياسة الصندوق لكن آلاف الفلل خططت لتكون وحدة سكنية واحدة ولم يراع أصحابها الجانب الاستثماري. ولأن الحاجة إلى آلاف الوحدات لحل مشكلة الإسكان يتوجب على الصندوق التركيز على إعطاء الأفضلية لمخططات الوحدات (الدبلكس) لتوفير شقق أو أدوار للمستأجرين وفي الوقت نفسه يستثمر المواطن قرضه فيتمكن من السداد، وحتى يصبح العرض أكثر من الطلب فينخفض سعر إيجار الوحدة بما يحقق العدالة بين المالك والمستأجر. 5) هل لدينا بطالة؟ القضية تكمن في غياب المعلومة فلا يوجد مرصد وطني دقيق يحدد عدد الوظائف الشاغرة في القطاعين الحكومي والخاص، ولا توجد متابعة متطورة لحالة الأسر المحتاجة التي تضم شبابا يتمتعون بصحة جيدة وفراغ يزج بهم في غياهب الانحراف. نحن بحاجة إلى فرض "خدمة عسكرية إجبارية" لمن لا عمل له أو دراسة يتلقى فيها الشاب تدريبات وتطبيقات مهنية تؤهله للعمل في القطاعات المختلفة. ومن جانب آخر أقترح إيجاد مكتب تنسيقي في كل محافظة مهمته تأمين فرص للعمل الجزئي(ساعات) حسب ظروف الشاب. لقد كثر الحديث حول عمل المرأة بين متطرف يفرض عليها الإقامة الجبرية في منزلها ومتطرف يطلق لها العنان ونسينا أن جيل ما قبل الطفرة كان أكثر انفتاحا منا فقد كانت المرأة تبيع وتشتري وتدير المزارع وتترافع أمام القضاء وتشترك مع أسرتها في بناء بيتها الطيني وأدركنا نساء كن يتولين صيانة ماكينات المياه وباختصار كانت المرأة السعودية منتجة فأتى عليها حين من الدهر لم تعد شيئا مذكورا في حقل العمل بل منعت من بيع الملابس النسائية الداخلية لأن كائنا بشريا جلب من الخارج زاحمها حتى في خصوصياتها؟ أمر عجيب؟ ومنعت من أن تكون محاسبة في الأسواق وثارت حرب داحس والغبراء من المتعجلين قبل أن يستبينوا الأمر ولو بين الهدف ووضحت الضوابط لارعوى المتحفظون . كيف يجوز أن يحاسب رجل امرأة ؟ونمنع امرأة من أن تحاسب امرأة؟ ضعوا مسارات للنساء فقط وهذا يحقق تشغيل فتياتنا في جو من الحشمة ويزيل الحرج الحاصل من وجود رجال ونساء معا في ذات المسار. 6) تعرض قنوات شعبية حفلات ومناسبات قبلية تتضمن خطبا وقصائد تبجل أمجاد القبيلة البائدة وتتغنى بمكارم المضيف، وفي الختام توزع الجوائز. الأمر الذي أثار دهشتي أن من بين الجوائز خناجر مذهبة ورشاشات؟؟؟ في وقت تسعى السلطات إلى تقليص وترخيص السلاح؟ في وقت يحرص فيه جهاز التربية والتعليم على إشاعة روح السلام والتسامح في مدارسها، في وقت تقولب المناهج لتعزيز الانتماء الوطني. أقول إن مثل هذه المناظر والمشاهد تذكي في نفوس النشء الشعور بالفخر القبلي الذي يؤدي إلى حب التسلح والخروج عن القانون. ولابد من تنظيم مثل هذه المناسبات لكي تتحرر من مخلفات الماضي. فالوطن كقلب الأم يتسع للجميع. * أستاذ العلاقات الحضارية والدراسات العليا بجامعة الإمام