لقد تفرد ربنا سبحانه وتعالى بالوحدانية فأصبح من أعظم صفاته أنه واحد احد فرد صمد، وهذه الوحدانية الالهية المتفردة في الذات والصفات والأفعال، تقابلها المغايرة الحتمية مع المخلوق الضعيف ، فالمخلوقات جميعها موصوفة بالزوجية والتعددية ( ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين ، لعلكم تذكّرون ) ، ومن جملة المخلوقات الفكر والرأي ، وهذه الحقيقة تتناقض مع التفكير والسلوك الاقصائي ، والذي يفترض ان الحقيقة دائما واحدة ، فهو الوحيد فقط من يمثلها ، فيرفض اي مخالفة له ، ولا يتسع صدره لتعدد الآراء ولا لاختلاف وجهات النظر معه ، ويعد الخروج عن رأيه شذوذا تجب مواجهته ، لانه يرى ان الحقيقة واحدة لاثاني لها ، وحتى لو امتلكت انت دليلا داحضا يثبت رأيك ووجهة نظرك فلا قيمة لذلك عنده .. إن القدسية لاتصلح أن تكون لشيء غير كتاب الله وماصح من سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، اما ماعدا ذلك من عادات وأعراف وعلوم نظرية وفكرية فهي محط الاخذ والرد ، وللعقل ان يرفض منها مايشاء او يقبله ، فالإنسان الذي لا يحترم عقله هو بالضرورة انسان لا قيمة له ، ولذلك امتن المنعم سبحانه وتعالى علينا بنعمة العقل فقال ( ولقد كرمنا بني آدم ) ، ومن يرفض ان يستفيد من نعمة الله التي اكرمنا بها فهو حقا ليس جديرا بها ، ولذلك تجد اختلاف الامزجة والعقول والافهام والثقافات ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين)... العجيب أن بعض المتعالمين يصطدم مع طبيعة الحياة التعددية ، بل مع الطبيعة النسبية للحقيقة، فكل يرى الحقيقة من نصيبه ومع ذلك يتسع الكون لهذا الاختلاف الذي هو من طبيعة البشر .. (فالحقيقة المطلقة ) نوع من الكمال الذي لاينبغي ان يوجد في هذه الدنيا الناقصة بطبعها ، ولكنها نظرات تكاملية للحقيقة من جوانب مختلفة ، فنظرة من زاويتك ونظرة من زاوية غيرك ، تصنعان لنا صرحا عظيما من الحضارة والتقدم العلمي والفكر الراقي ... إذن فالسلوك الاقصائي مولود مشوه للفكر الاحادي الرافض لتعدد الآراء، الذي عبر عنه المعجب برأيه بقوله ( ما اريكم الا ما ارى ) ، وهو نوع من الشهوة السيادية لاستعباد جميع العقول وسلب الحريات منها ، تلك العقول التي لم توجد اصلا الا لعبادة إله واحد لاشريك له ، اما ماعدا ذلك من (امور الدنيا) فقد خلقها الله عقولا حرة ، تختار ماتقتنع به من الآراء والافكار والنظريات ، وربما تفنن اصحاب المصالح الذين يستميتون كثيرا في قمع التعددية الفكرية لاسباب يزعمون انها لاجل الدفاع عن الحقيقة الواحدة ، وباطن فعلهم اسباب مهنية حياتية تتعلق بالمنصب والجاه والمال وشهوة تملك الحق المطلق ، كما اقصى قابيل اخاه هابيل ، وهذا من اكبر اسباب تخلفنا العلمي والفكري والادبي .. ولذلك يجب علينا ان نعلم اطفالنا منذ الصغر على حرية الاختيار وابداء الرأي الذي يعتقدونه دون قهر او خوف ، ومن ثم احترام آراء الاخرين دون تسفيه او تحقير ، ويجب ان يدرب الطفل على التعايش مع ماحوله رغم التعددات الفكرية والتسامح في اختلافات الرأي ووجهات النظر ولو شق هذا الامر عليه ، كما يجب تنبيهه على رفض اي نوع من الاقصاء للرأي الآخر ، والتفريق بين تباين الآراء وبين العداء والمواجهة للرأي الآخر ، لنخرج لنا جيلا لايقدس إلا دينه وعقيدته الصحيحة، ولا يحترم بعد ذلك الا عقله تلك المنحة الربانية العظيمة ..