المقهى الذي رسمه فيصل لعيبي، أقرب الى مدار جمالي، يمكن أن تلتف حوله وتطل عليه من نوافذ مختلفة، مثلما دوّر الفنان زواياه، وأعاد لحظاته واستنسخ وجوهه، ومنحه هذا الشغف الباذخ بالكلاسيك. الكلاسيك مفردة تنطبق على الكثير من أعمال فيصل، رغم مفارقة التحدي الكامن في انتقالها كمفهوم إلى ميدان مختلف. ذاك إن ما أراده الفنان، هو إعادة الاعتبار إلى فكرة الرسم البدائي حين يتحول موضوعا و ألواناً وتخطيطات، مادة لتغريب وتجسيد فكرة المحاكاة. استطاع الفنان جمع النقيضين: وسيلة الإيضاح ( لنتذكر هنا مع من كتب عن فيصل من نقاد وفنانين، مشروع جواد سليم في احياء رسوم يحيى الواسطي والمدرسة البغدادية) خطوط تخل بمنظور عصر النهضة لصالح شرح مكونات ومقاصد الفنان في الرسمة الإيضاحية، مع استحضار الضديد : السرد المرئي حيث تقليد حركة الطبيعة في البورتريت وتسجيل اللحظة في الفوتوغراف، فالشخصيات والأشياء في "المقهى" تهم بالحياة وتحاور المكان وتنتمي إليه كمسرح واقعي، بل هي تخاطب الناظر أي الرسّام نفسه وتستعد له من موقعها. أي أن الفن التشبيهي او التشخيصي حين يحضر بقوة مع ما ينقض طبيعيته، يكون قد اقترب من فرضية التغريب المسرحي عند بريخت، أي خلق مسافة بين الممثل ودوره. وفيصل في مقهاه يمنع عن الناظر فكرة الواقع، ويحل بدله الحكم الجمالي عليه، بل وأيضا الموقف الاجتماعي، وإن على نحو لا يخلو من مرح ولمحات فكاهية. أزاح فيصل لعيبي عن المقهى غبار الذاكرة المهاجرة، وأثثه بالترف والحكايات التي ينسجها الصمت، صمت الفنان وصمت مادته. هو يضع فرضية رياضية علينا ان نقف بين خطيها المتوازيين كي تدرك العين نقطة الارتكاز، ونقطة الارتكاز تلك هي الجسد، جسد المنضدة والكرسي وأجساد الناس. ولكن الذي بين تلك الصور الفولكلورية النافلة، يقف كون من الجاذبية المستقرة، الثقل الذي تتجمع في قعره خطوط التوازن بين الكتلة واللون، الكتلة المكتسبة صلابة النحت وملحميته، واللون الذي يضفي على المكان رمزية الجنان الضائعة، شهوانية العين وشبق المخيلة. تلك اللطافة والرقة في تعبيره المجازي عن المستقبل الذي كمن بين عصرين في حاضر وماضي الحكاية المعروضة أمامنا. عليك ان تحب هذا الصبي الطريف المُهنّدم الذي تكتنز وقفته وملابسه بحضور الأغنية التي تتغزل به. البغدادي المترع بالعافية، والأنوثة الخفية في ملامح وحركة الرجال. في المقهى البغدادي، والتاريخ يسجل انعطافاته على مرأى الفنان، تنبثق حكاية المكان العراقي من الجزئي والعابر والفكاهي والمصنّع مثل ورود بلاستيكية. حكم جمالي موصول بقاعدة الخيال الاسترجاعي. اللعب على المقولة : صبي المقهى وأمه والوجيه البغدادي والشرطي والجريدة والعامل وصبّاغ الأحذية. مجرد مفردات وإحالات وسرديات مسبقة، فالذي يبقى من الحياة الضاجة في اللوحة، لمسة الجميل المؤمثل، مهرجان الزينة اللوني وهندسة الأشياء وترتيب وجودها كما في حلم. " هناك قدر من العذوبة في سلسلة المقهى البغدادية" كما تقول ماريا فكتوريا فيفير، لتستأنف " نلحظ توتراً بين الواقعية والتجريد، فالأسلوبان متوازيان ومنسجمان، ويخدمان التكوين والتناغم اللوني في وقت متزامن" كما جاء في مقدمة مجلد الفنان الجامع كل أعماله. لابد أن نجد في " الجالغي البغدادي" وهو يستكمل رسوم المقهى عند فيصل لعيبي، سكون الجدارية السومرية، التي ولع فيصل بمقاربتها في لوحاته، فالتوازن يقوم على فكرة التكرار والتعاقب: الوجه نفسه الذي لا يبرح اللوحة، بل كل اللوحات، ويقوم بجميع الأدوار، والحركة المتوقفة بين طيات الثياب وموضع الأيدي، والمواجهة التي تدخل الصمت إلى الحكاية، كلها من جماليات جداريات الحضارات القديمة. استثمرها الفنان في ملحمته عن جنازة الحرب التي رسمها في التسعينات. التعاقب أو التناسب الهندسي واللوني هو تقليد لفكرة التوازن في طقوس رسم رحلات الصيد ومهرجانات القطاف وتقديم النذور وسواها في الجداريات، كما استخدم الفن الشعبي في صناعة السجاد أو البورسلاين والفخار، فكرة الكثرة المتوالدة من الصورة الواحدة. وفي مقاربته الجمالية، يقدم فيصل البعد التغريبي لواقعيته الحلمية في "الجالغي البغدادي"، معتمدا هذا النوع من التقليد. فخطوطه التي لا تظهر براعة البورتريت لديه،وتقشفه في إظهار نازع التنوع أو التعدد والاختلاف في المشهد، منح عالمه رمزية الطقس المتحفي، حيث حرفية الفن في عروض المتحف الشعبي، تقوم على النموذج الذي يتولى الوظائف كلها مع تغيير مواقعه وديكوره. سرديات المقهى البغدادي عند فيصل تزدحم بالماضي، بأخيلته التاريخية، بحلمية وجوده، وغرابة مرئياته،وشعرية تحققه. فهو استعارة كبيرة لمفهوم الفنان عن الزمن غير المنتهي،عندما يقف المكان الأول في أقصى نقاط البعاد، ساطعا مثل كوكب بعيد. يحاول الرسام هنا ابتكار تاريخ فني وجمالي لذاكرته.