إذا كان الحب مرحلة في حياة الرجل، فإنه تاريخ المرأة كله، والحب أكبر ملهم للشعر.. وبما أن العرب من أكثر شعوب الأرض قولاً للشعر، وإعجاباً به، حتى كاد يكون هو فنهم الوحيد في تاريخهم القديم، فإنني لا أكاد أشك أن المرأة العربية قالت الكثير من الأشعار الوجدانية ولكنها ضاعت مع الدموع المسفوحات علي النجاد والوهاد ورمال النفود لتنعكس تلك الأشعار المدفونة والدموع المسفوحة والآهات المكبوتة أحزاناً على وجوه النساء تفيض من الداخل لتصبغ الوجدان والوجه والمشاعر بالأحزان اصطباغ الألوان في شفق الغروب.. لقد كان عاراً أن تقول المرأة شعر الحب، وبما لا يزال عند كثيرين، مع أن المرأة والحب توأم ولدا في ليلة ربيع قمراء، ومع أن الشعر يصدر تلقائياً من الحب كما يصدر العطر من آكام الورد.. والرجال يفخرون بأشعارهم في الحب، حتى الذين لم يعرفوا الحب منهم يحسون بضرورة أن يتغزلوا ويقولوا قصائد الحب لتكمل النقص، فما يُعتبر عاراً على المرأة الشاعرة أن تقوله، يعتبر نقصاً في الرجل الشاعر ألا يقوله، ولذا نجد شعراء لم يحبوا ولهم أشعار كثيرة في الغزل والنسيب وأشهرهم المتنبي أكبر شعراء العربية، لم يحب قط - إلا إن كان أحب خولة أخت سيف الدولة وهذا مشكوك فيه - ومع ذلك تغزل وتأوه من ألم الحب وكمّل النقص الذي لا يصح أن يوجد في شاعر.. بل ادعى أنه غامر بسبب الحب كقوله: «كم زورةٍ لك في الأعراب خافية أدهى وقد رقدوا من زورة الذئب أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي» فهذا كذب يرفضه العقل، والأعراب دون أعراضهم لو زارهم لهذا الغرض لقطعوه إرباً وحرمونا من شعره الفخم، ولكنه تعويض النقص في قلة الغزل، مع أن البيتين ليسا غزلاً ولا من الخلق الحسن ولكنها (خدعة البلاغة) فالبيت الأخير ربما كان الأول في خيال الشاعر فوضع قبله قصة مختلقة، وهو بيت تغنّى البلاغيون بما فيه من مقابلات وفنون.. ورغم أنه قد ضاع من شعر المرأة العربية في الحب أكثره، إلا أن ما بقي منه - وهو أقل القليل - يدل على عمق مشاعر المرأة وصدقها في الحب، فلا أحد تقريباً يشكك أن المرأة تهتم بالحب أكثر من الرجل، وتصدق فيه أكثر وتضحي.. من الشعر القديم الذي بقي قول (عشرقة المحاربية) وهي من العصر الجاهلي: «حريتُ مع العشاق في حلبة الهوى ففقتهم سبقاً وجئتُ على رِسْلي فما لبس العشاق من حُللِ الهوى ولا خلعوا إلا الثياب التي أُبلي ولا شربوا كأساً من الحُبِّ مٍرّةً ولا حلوةً إلاّ شرابهم فَضلي» وقول حفصة بنت الحاج في زوجها: «أغار عليكَ من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكانِ! ولو أنِّي خبأتُكَ في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني!» ومن أغرب ما قرأت قول شقراء بنت الحباب تخاطب زوجها الذي كان يضربها بالسياط لأنها أظهرت حباً لفتى اسمه يحيى وربما قالت في محبوبها هذا شعراً شاع.. تقول تتحدى زوجها وتغيظه: «أقول لعمرو والسياط تلفُّني لهُن على متنيَّ شرُّ دليل: فاشهد يا غيرانُ أني أحبُّهُ بسوطك فاضربني وأنت ذليلي!!» وعليه بنت المهدي حفظ لها بعض الأشعار بل والأصوات الملحنة كما في كتاب الأغاني (ترجمة علية) ومن شعرها: «ما أقبح الناس في عيني وأسمحهم وإذا نظرت فلم أبصرك في الناس»! وقولها كما ورد في الأماني ص224 والأغاني 10/199: «لم يُنسنيك سرورٌ لها ولا حَزَنُ وكيف يُنسى لعمري وجهُك الحَسَن؟ وما خلا منك قلبٌ لي ولا بَدَنُ كُلَّي بكلك مشغول ومرتهن» وتقول أم الحنَّاء الأندلسية: «جاء الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين في فرح وفي أحزان فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ودعي الدموع لليلة الهجران» وما حفظ من شعر النساء العربيات في الحب نقطة من بحر.. أكثره ضاع في الصحراء ينشدنه وحيدات إلا من الصدى.. ولو تكلمت الرمال لسالت بأشعارهن ودموعهن ودمائهن.. فإذا كان العرب قديماً لا يزوجون من يتغزل ببناتهم ولو كان كفؤاً (مجنون ليلى رفض عمه تزويجه منها لأنه تغزل بها بعفة) فماذا يكون موقف المرأة؟ لعلها أذكى من الرجل تصمت حين تحب ليتم تزويجها به.. أما في العصر الحديث فيوجد الكثير من الشعر النسائي الجريء في الحب، عند عاتكة الخزرجية وفدوى طوقان وسعاد الصباح ولميعة عباس وغيرهن.. ولكن درجة الحذر عند المرأة - في هذا الأمر - لا تزال على أشدها.. وسبق أن ذكرنا نماذج لأشعار المرأة الجريئة في هذه الزاوية بعنوان (المرأة تتغزل بالرجل)..