الفساد المالي والإداري وباء يصيب المنظمات والشركات والقطاعات الحكومية ويقضي على كل المنافع الاقتصادية والاجتماعية التي أنشئت هذه الجهات من أجل تحقيقها، بل قد يحولها من أدوات ووسائل لتحقيق التنمية إلى معاول هدم وتدمير اقتصاد البلاد. يبدأ الفساد بالوساطة والمحسوبية، ثم يتحول إلى فساد مالي (رشوة، واختلاس، وسرقة مباشرة). ولكي ينتشر الفساد المالي ويتغلغل في الجهات التي يصيبها يبدأ بضرب أجهزتها الإدارية، وبذا تدخل هذه الجهات في فساد مالي وإداري مزدوج يقضي على مواردها البشرية. وكلما ظهرت بوادر التعافي من خلال بعض الكوادر البشرية الواعدة؛ تفنن الفساد الإداري في تهميشها، واستفزازها، وتهديدها أو التخلص منها عن طريق إغرائها بالانتقال إلى جهات أخرى، حتى تغرق تلك الجهات في قاعدة "منح من لا يملك لمن لا يستحق". ومع الوقت تصبح فاتورة الفساد باهظة الثمن ولا تقتصر على ميزانيات الجهات المصابة بالفساد، بل قد تمتد إلى جيوب المواطنين بطرق غير مباشرة. فعلى سبيل المثال انتقلت بعض الكوادر القانونية المميزة من بعض الجهات الحكومية إلى القطاع الخاص، وتحول عملها من حماية المواطنين إلى التفنن في صياغة العقود لصالح الشركات التي انتقلوا إليها. ويمهد هذا السيناريو لظهور حالة "عدوى الفساد" وكأنما هي فتنٌ يرقق بعضها بعضا. فقد ينتقل الفساد في جهة حكومية إلى بعض الشركات في القطاع الخاص التي تنقله بدورها إلى جهات حكومية أخرى. ولعلاج ظاهرة الفساد لابد من الاعتراف بوجودها، وتأثيرها على الموارد البشرية في القطاعين العام والخاص، واستيعاب حجم آثارها السلبية التراكمية على الاقتصاد، وتجنب الراديكالية (أبيض وأسود) في التعامل مع الفساد، لأننا جزء من المشكلة والجميع مسئول عن وجود وانتشار الفساد. وينبغي أن يكون الهدف هو القضاء على الفساد كظاهرة والابتعاد عن الشخصنة واستهداف الذمم. ويتطلب ذلك الاهتمام بالجوانب التشريعية والرقابية خصوصاً في القطاعات الحكومية. وكما أن الفساد استغرق وقتاً طويلاً في نموه، فإن علاجه أو التقليل من آثاره السلبية على المواطن يحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد. والانطلاقة الحقيقية في القضاء على الفساد تبدأ من وضع آلية تصحيح المسار، فمعظم الأنظمة واللوائح والأجهزة الحكومية ارتكزت عند تأسيسها على قاعدتين رئيستين هما: تحقيق التنمية؛ وخدمة المواطن. وفي مرحلة التطبيق يحدث انحراف عن هذا المسار، ومع الوقت تتسع الفجوة بين الخطط الإستراتيجية التي وضعتها الدولة وبين ما يحدث على أرض الواقع. ويتطلب تصحيح المسار المزيد من الشفافية من خلال وسائل الإعلام التي يجب إعطاؤها المزيد من الثقة والحرية الكافية للقضاء على الفساد كظاهرة والمساهمة في تصحيح المسار. ينبغي لآلية تصحيح المسار أن تجيب عن السؤال التالي: كيف يمكن أن نجعل من الفساد مسألة صعبة؟ فالبشر معرضون للضعف والوقوع في الفساد، والبعض منهم لم يقع في الفساد لأنه لم تتح له الفرصة. إذاً لابد من تطوير أنظمة وإجراءات العمل بالقدر الكافي للحد من الوقوع في الفساد، ومحاسبة من يقع فيه، وأن يكون لدى المتضرر من الفساد الوسائل الكافية لدرئه ومقاومته. *مستشار اقتصادي