نحن بحاجة إلى استنساخ التجربة في التعليم العام والصحة والثقافة. في الأيام القليلة الماضية اتجهت أنظار الأكاديميين والباحثين وطلاب العلم إلى حدث علمي وطني احتل مكانته ضمن المشهد العلمي والثقافي، الذي ينال نصيبه الوافر من الاهتمام والرعاية من أعلى الهرم الحكومي. ففي احتفالية علمية دشن معالي وزير التعليم العالي "المكتبة الرقمية السعودية" ، ليأتي هذا المشروع حلقة في سلسلة التنمية المتصلة، وليدق مسماراً آخر في نعش العالم الثالث، ويضىء مصباحاً آخر في دربنا نحو العالم الأول، الذي يركز على تنمية البشر قبل الحجر واقتصاد المعرفة قبل الصيرفة واستثمار العقول، في ظل قيادة المبادرات والتخطيط والتنفيذ، وفي سباق مع الزمن لتحقيق الهدف المنشود واللحاق بالركب المعلوماتي والفضاء الرقمي الذي تتقاسم منافعه الدول المتقدمة والشركات والمؤسسات الكبرى. لقد جاءت هذه المكتبة لتشكل رافداً هاماً للقطاع البحثي والمعلوماتي، الذي أُنِهك فيه الباحثون جراء سعيهم للحصول على المعلومات والدراسات العلمية. هذا المشروع الفريد من نوعه على المستوى العربي يجسد روح التعاون والتكامل بين أقطاب التعليم العالي والبحث العلمي في المملكة. ومن ثمراته، ذلك الخفض الكبير في تكاليف المصادر العلمية التي أرهقت موازنات المكتبات الجامعية، علاوة على امتلاك المكتبة الرقمية لأكثر من (114000) كتاب رقمي، متاح لمنسوبي المكتبات الجامعية . وإذا نظرنا إلى أن هذه المجموعة من الكتب الرقمية تمثل نقطة الانطلاقة فقط؛ فإننا نتطلع إلى مستقبل واعد سيشهد نمواً في الكم والنوعية وبما يحقق الطموحات إن شاء الله. ومن هذا المنطلق، فإن دعم هذا المشروع مادياً ومعنوياً مطلب وطني، والأمل في أن تمتد أيادي الخير والميسورين في هذا البلد المعطاء لدعمه، من خلال إيجاد أوقاف يخصص ريعها لتمويل نشاطات المكتبة وتنمية محتوياتها، حيث النفع العام الذي يبقى أثره وأجره. كما يمكن لأرباب القلم من المؤلفين والكتاب التبرع بحقوقهم الفكرية وإضافة ما لديهم من مؤلفات علمية إلى مجموعات المكتبة الرقمية. وبنجاح هذه التجربة الرائدة وما تقدمه من خدمات معلوماتية وفقاً لأحدث النظم والتقنيات، فإن المجال مفتوح وميسَّر لقطاعات أخرى لا تقل أهمية وتأثيراً من قطاع التعليم العالي، وحريٌ بها أن تتبنى مشروعات مماثلة، ومن أهم تلك القطاعات: قطاع التعليم العام، الذي يخدم أبناء هذا الجيل المفتون في التقنية الحديثة واستخدامات الحاسب الآلي وتصفح الانترنت والرسائل الالكترونية. وإدراكاً من وزارة التربية والتعليم بذلك فقد عملت على رسم الخطط الإستراتيجية لتطوير التعليم من جوانبه كافة، وتحويل المكتبات المدرسية إلى مراكز مصادر التعلم، وتزويدها بأحدث التقنيات، والمرجو أن تستكمل تلك الجهود المسددة بمشروع "المكتبة الرقمية المدرسية"، حيث يتم ربط مراكز مصادر التعلم في المدارس الحكومية وحتى الخاصة، من خلال موقع المكتبة على شبكة الانترنت والذي يتضمن مجموعة من الكتب والدوريات والمراجع والعديد من النشاطات والمسابقات المناسبة حسب الفئات العمرية للطلاب والطالبات ، إضافة إلى جميع المناهج الرقمية التي أنتجتها الوزارة. وعلى نفس النسق تتبنى وزارة الصحة مشروع "المكتبة الطبية الرقمية" لتوفير الخدمات المعلوماتية للباحثين في المجال الطبي، من خلال ربط المكتبات الطبية التابعة لوزارة الصحة أو غيرها من القطاعات، في مشروع موحّد تتكامل فيه الجهود والموارد المادية والبشرية، لتقديم خدمات عالية الجودة، بدلا من التكرار الحاصل بين المكتبات الطبية التابعة لمستشفيات وزارة الصحة أو القطاعات العسكرية أو الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. أما وزارة الثقافة والإعلام، ممثلة في وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، وهي الجهة التي تتبعها المكتبات العامة في المملكة، فإن مشروع "المكتبة الرقمية العامة" سيحقق رغبات وتطلعات غالبية فئات المجتمع. ويأتي مشروع المكتبة الرقمية السعودية وغيرها من المكتبات الرقمية المقترحة منسجماً مع المبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يحفظه الله، لإثراء المحتوى العربي على شبكة الانترنت، الذي تتشرف بتنفيذه مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وبالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة داخل المملكة وخارجها، عبر مجموعة من الفعاليات والمشاريع طويلة المدى الهادفة إلى تعزيز الحضور العربي في المجتمع المعرفي العالمي. وختاماً، أتوجه بجزيل الشكر والتقدير لجميع من ساهم في بناء هذا الصرح العلمي، بدءاً بمعالي وزير التعليم العالي ومعالي نائبه، وسعادة وكيل الوزارة للشؤون التعليمية الدكتور محمد العوهلي، وكذلك مدير المركز الوطني للتعلم الالكتروني والتعليم عن بُعد الدكتور عبدالله المقرن، والشكر موصول لسعادة المشرف العام على المكتبة الرقمية السعودية الدكتور مساعد الطيار، الذي بذل وقته وجهده بإخلاص، كما عهدناه، ليتجسد هذا المشروع واقعاً ينهل من معارفه أبناء الوطن جيلاً بعد آخر.