بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية لما يجري في لبنان تغلّف المواقف المعلنة للأطراف اللبنانيين غلبة الأسباب الخارجية التي تفوق طاقة اللبنانيين وقدرتهم على التحمل. ومهما حاول الفرقاء تغطية هذه العوامل فإنها هي الأساس. ولا لبس في أن ما يجري هو محاولة سورية استعادة القدرة على التحكم بالقرار السياسي اللبناني منفردة، لأن مفاوضات الأشهر الماضية التي أعقبت المصالحة السعودية – السورية التي فرضت جدول أعمال واسعاً بين الدولتين، يتناول عدداً من الملفات الإقليمية المعقدة، القديمة والمستجدة، كانت تستهدف إحداث تقارب في معالجة هذه الملفات، إلا أن الرغبة السورية في العودة الى الإمساك بخيوط اللعبة السياسية اللبنانية كانت على الدوام هي المضمرة. وقد بُنيت هذه الرغبة على الكثير من المعادلات التي تنطلق أساساً من التسليم بنفوذ سورية في لبنان، من دون التوافق على شكل هذا النفوذ قياساً إلى ما كان عليه قبل عام 2005. من بين هذه المعادلات أن دمشق تنتظر من تقاربها مع موقف السعودية في العراق، أن تقابلها الرياض بتفويضها العودة الى إدارة شؤون لبنان. ومع توصل الرياضودمشق الى مسودة نهائية للتسوية اللبنانية على المحكمة الخاصة بلبنان، تتضمن سلة من الخطوات من فريقي الأزمة، برزت المعادلة القائلة بأن دمشق تتوقع مقابلاً لدورها في حفظ استقرار لبنان عبر سعيها الى اتفاق بين اللبنانيين يلجم ما كان يهيئ له حلفاؤها ضد المحكمة، من الدول الغربية التي تعطي الاستقرار أولوية... وحين سعت دمشق، بعد إنجاز الاتفاق، تحت عنوان الحصول على ضمانات من دول الغرب، الى أن تلقى جواباً على إعادة تفويضها في لبنان، لم تحصل على الجواب الذي ترغب فيه، ما أدخل الاتفاق السعودي – السوري في حال الخطر وصولاً الى نسفه مطلع هذا الشهر، فسحبت الرياض يدها من المفاوضات حوله. لكن غياب الأجوبة حول تفويض دمشق من دول القرار غير المتحمسة للعودة الى مرحلة ما قبل 2005، اقترن مع عامل آخر لعب دوراً رئيساً في إقدام القيادة السورية على تبديل المشهد السياسي اللبناني الداخلي. فتطور الأحداث الداخلية لم يكن مساعداً على ترجيح التفويض من القوى الخارجية، التي بدورها، على جدول أعمال علاقتها مع دمشق عناوين أخرى غير لبنان. فرئيس الحكومة الذي أُسقط، سعد الحريري، لم يكن عنصراً مساعداً على التسليم الخارجي بالقدر الذي تريده سورية لعودتها الى إدارة الداخل اللبناني. وهو استجاب لما تأمله القيادة السورية بالقدر الذي نصحته به الرياض وليس بالقدر الذي تطمح إليه دمشق، فسعى الى التنسيق معها في السياسة الخارجية وتشاور وإياها في العلاقة مع الغرب في بعض المحطات (زيارته الولاياتالمتحدة التي دعا خلالها واشنطن الى زيادة انفتاحها على دمشق لأن في ذلك تعزيزاً للاستقرار اللبناني – التصويت بالامتناع عن فرض العقوبات على إيران – الانفتاح على بعض حلفائها في لبنان... الخ) وصولاً، في 6 أيلول (سبتمبر) الماضي، الى إعلان عودته عن الاتهام السياسي لها بالتورط في جريمة اغتيال والده، الذي أتبعته دمشق بصدور مذكرات التوقيف في حق أكثر من 30 شخصية لبنانية في قضية شهود الزور، ثم بالإكثار من الاعتراض على محيطه ومستشاريه... لكن الحريري امتنع عن دخول لعبة طلب تدخل دمشق لمعالجة المذكرات التي كانت إشارة إليه بأن دوره في السلطة يتوقف على المساعدة التي تقدمها له، على رغم نصائح أُسديت إليه بأن «يطلب» من القيادة السورية إنهاء هذه القضية. تجنب أيضاً أن «يطلب» من القيادة السورية رد حلفائها عنه في الحملات المتواصلة ضده خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وانكفأ في العلاقة مع الجانب السوري الى تحت العباءة السعودية، تفادياً لتكريس مبدأ طلب المساعدة السورية. أكثر من ذلك، بدا أن الحريري يسعى في إطار سلة الاتفاق السعودي – السوري الى حرية الحركة في السلطة وضمان الإقلاع عن شلّ حكومته، ومعالجة ملفات عالقة لمصلحة هذه السلطة، مقابل الموقف الاستيعابي الذي ينص عليه الاتفاق في شأن المحكمة، بحيث لا يعود محتاجاً بعدها الى «طلب» مساعدة دمشق في ممارسة دوره في الحكم، ويجرد الأخيرة من أوراق الضغط والمناورة. في اختصار لم يكن الحريري عنصراً مساعداً على تسهيل إعادة التفويض، وهو ما يفسر الغضب الكبير عليه الى حد «استفظاع» ممانعته، فيما هو يرفض العودة الى معاناة والده... ضربت دمشق ضربتها وقلبت الطاولة مع وصول السفير الأميركي الجديد فسعت الى انتزاع التفويض بدل انتظاره. فهل أن هدفها التفاوض على الأمر الواقع الجديد أم إنها ستصر على التصعيد؟