بين شعابها ووديانها نختزل التاريخ، وعلى ربواتها نستشرف مآثر الأجداد وفي باحتها الواسعة تحكي لك "مقبرة الصحابة" ملحمة "حروب الردة"، وكيف ارتدت العرب وامتنعت عن دفع الزكاة حتى تتالت عليهم جيوش "الصديق" رضي الله عنه من "عكرمة بن أبي جهل" و"شرحبيل بن حسنة" وانتهاءً ب"خالد بن الوليد" رضي الله عنهم أجمعين، لتنتهي ملحمة "حديقة الموت" في موقعة "عقرباء"، والتي تشكو الآن إهمال الجهات المسؤولة في المحافظة على آثارها ومعالمها الدارسة، كما تشكو ندرة الأبحاث والرحلات العلمية التي تعنى وتهتم بها. وسال بفرع الواد حتى «ترقرت» حجارته فيه من القوم بالدم أرض منخفضة تقع "عقرباء" شمال مدينة الرياض، وإلى الشرق من مدينتي "الجبيلة" و"العيينة"، وتبتعد عن الرياض قرابة أربعين كيلاً، وهي أرض منخفضة تتجمع فيها السيول والشعاب ك"وادي أبي العنصل" وهو أكبر وديانها، و"وادي النظيم" و"وادي غبرية" و"شعب أبو حرمل"، كما يذكر العلامة "ابن خميس" الذي يقول: ولم ينقل أنها امتلأت بسيولها، وأُفرغت إلى منخفضات تليها جنوباً تصب في وادي حنيفة، ولذا فقد يشاهد في منخفض هذه الروضة وقرارة سيلها شقوق ممتدة وعميقة تبتلع جزءاً كبيراً من هذه المياه إلى باطن الأرض، مضيفاً: "نقل لي أحد المتتبعين أن هذه الروضة إذا امتلأت أحس أهل الوصيل من وادي حنيفة زيادة في مياه آبارهم"، ولأن أرض "عقرباء" متصلة ب"الجبيلة" التي كانت آهلة بالسكان وعامرة بالزراعة والبساتين، فقد تجد في بعض المعاجم وكتب الرحالة الحديث عن "الجبيلة" و"عقرباء" لا يتجزأ، إلا أنها اليوم أقل سكاناً عما كانت عليه قبل أكثر من قرن، رغم وصول المخططات الزراعية والسكنية المطورة لها والتي قد تتداخل مع المدينة القديمة في الجبيلة. مقبرة الصحابة تضم رفات 500 إلى 600 شهيد معركة عقرباء قال "ابن كثير" في (البداية والنهاية) بعث "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه "خالد بن الوليد" رضي الله عنه إلى قتال "بني حنيفة" في "اليمامة"، فلما سمع "مسيلمة" بقدوم "خالد" عسكر بمكان يقال له: "عقرباء" في طرف "اليمامة" و"الريف" وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم فحشد له أهل اليمامة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى اضطروهم إلى "حديقة الموت". وموقع "حديقة الموت" الآن وسط "عقرباء"، وكان لجوء جيش "مسيلمة" إليها بعد أن يأس من حاله على أرض المعركة فتحصن بالحديقة، وكانت محاطة بالأسوار، يحفها شجر كثيف استطاع المسلمون أن يقتحموها بعد أن طلب منهم "البراء بن مالك" رضي الله عنه، أن يرفعوه إلى أعلى السوار ويرمونه قبالة جيش "مسيلمة" المحاصر ليقتحم باب الحديقة، وفعلاً استطاع فتح الباب، ودخل المسلمون فكان النصر حليفهم بحمد الله، واستطاع "وحشي" أن يجهز على "مسيلمة الكذاب"، ويقتله بعد أن شارك أبو "دجانة الأنصاري" رضي الله عنه في قتله، وأصدر بعدها "الصديق" رضي الله عنه أوامره بجمع القرآن الكريم وتدوينه، بعد أن بلغه عدد الصحابة الذين استشهدوا في "عقرباء"، ومن بينهم جمع من القراء وحفظة كتاب الله تعالى. تجمعات للمياه حول المقبرة شعيب الدم وذكر "ابن كثير" أن جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: واحد وعشرون ألفاً، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة وأعيان الناس، ويقال إن المقبرة المحاذية ل"الوادي" الذي يشق "عقرباء" هي جزء من مقابر حرب المرتدين، وقد سالت بها الدماء بعد هطول الأمطار، حتى جرت مع منسوب الوادي فسمي "بشعيب الدم"، فيما تبدو "مقبرة الصحابة" في الطرف الآخر من هذا الشعيب، وقد استشهد البعض على هذه الأحداث بقول "ضرار بن الأزور" رضي الله عنه بعد المعركة: فلو سئلت عنا جنوب لأخبرت عشية سالت عقرباء وملهم وسال بفرع الواد حتى ترقرت حجارته فيه من القوم بالدم ويرى كثير من المؤرخين وبعض السلف أن "معركة اليمامة" وقعت في سنة إحدى عشرة للهجرة النبوية، ويقول "ابن قانع": في آخرها، بينما يراها "الواقدي" وآخرون: أنها كانت السنة الثانية عشرة من الهجرة، والجمع بين القولين - كما يقول ابن كثير -: إن ابتداءها في سنة إحدى عشرة والفراغ منها في سنة اثنتي عشرة، والله أعلم. قبة مجصصة وقال "ابن جرير الطبري" في كتابه (تاريخ الرسل والملوك): قتل من "بني حنيفة" في الفضاء ب"عقرباء" سبعة آلاف، وفي حديقة الموت سبعة آلاف، وفي الطلب نحو منها، وكان على قبر "زيد بن الخطاب" رضي الله عنه الواقع في الجهة الجنوبيةالشرقية من الموقع "قبة مجصصة" أزيلت مع دعوة الشيخ "محمد بن عبدالوهاب" - رحمه الله -، حين اصطحب معه ستمائة رجل من أهل "العيينة" لهدم القبة، وما تزال آثار "الجص الأبيض" واضحة فوق القبر، وفق ما قاله أحد الباحثين، كما دفن العلامة "أحمد بن عطوة التميمي" - رحمه الله - المتوفى سنة 948ه، وتلميذ "ابن قدامة" ضجيعاً ل"زيد بن الخطاب" رضي الله عنه، ورأسه عند كتفه، وكان "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه يقول: مع كل نسيم يأتي من أراضي نجد ما معناه: "ما هبت ريحٌ من نجد، إلا وذكرتني زيد" رحم الله زيداً سبقني في الإسلام وسبقني في الشهادة. ويرى "ابن خميس" في (معجم اليمامة) أن مدينة "الجبيلة" جزءٌ من "عقرباء"، فيقول وهو يصف "الجبيلة": ولا شك أن اسمها الآن محدث وإلا فهي جانب من "عقرباء" (حديقة مسيلمة، والمشهور بين الناس أن بعض قبور الصحابة رضي الله عنهم تقع في الجبانة المقابلة ل"الجبيلة"، وبينهما "وادي حنيفة"، وعلى عدوته الجنوبية طغت السيول في سنين متعاقبة، فأكلت الجرف الذي فوقه الجبانة وذهبت ببعض القبور وبعضها بقيت لحودها. يد الإهمال لقد طال "الجبيلة" و"عقرباء" ما طال غيرها من إزالة لبعض مبانيها وآثارها القديمة، ناهيك عما اندثر منها بفعل الزمن وتعاقب الأيام، حتى إن تحديد معالم المدينة القديمة الآن يصعب على الباحثين وعلماء الآثار، والذين ربما وجدوا صعوبة بالغة في تحديد بعض معالم المدينة المتمثلة في بقايا المباني والحوائط والأسوار، لذا يعتقد الباحثون أن مدينة "الجبيلة" قامت على بقايا وأنقاض "عقرباء" القديمة، لاسيما "السوق القديم" في مدينة "الجبيلة" الحالية، والبناء القديم لمسجد المدينة الذي جدده الإمام "عبد الله بن فيصل" عام 1307ه، ومع ما تشكله المنطقة قديماً من مكانة اقتصادية وجغرافية، حيث الرياض والمراعي والأودية، إلا أنها ما زالت تشكو ندرة الرحلات العلمية والبحثية، رغم كونها تمثل منظومة عقد المدن النجدية مع "اليمامة" وجحر "الرياض"، كما لم تجد آثارها اهتمام الجهات المسؤولة ك"الهيئة العليا للسياحة والآثار" وأمانة منطقة الرياض والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، فكثير ما تحدث أهالي البلدة عن دخول المنطقة الأثرية وسط مشاريع البنى التحتية، ناهيك عما تتعرض له هذه المنطقة لاسيما المقبرة من انهيارات تسببت في ظهور عظام ورفات الموتى، كما طالتها يد العابثين بالكتابة على بعض أسوارها، ناهيك عن كونها أصبحت ملاذاً للسباع والحيوانات الضالة، كما يشكو بعض الأهالي تسرب مياه المدينة للمقبرة، مما يستوجب ضرورة التجاوب السريع من قبل الجهات المعنية.