إن أكثر ما يقلقنا في الوقت الحاضر هو أن يعود هؤلاء الشباب الذين يملؤهم الطموح والتطلع للمستقبل ويفاجأون بأن القطاعات الحكومية والخاصة غير قادرة على استيعاب بعض تخصصاتهم الدقيقة فيعودون للقبول بوظائف عادية لا تتطلب مثل هذه التخصصات العلمية، وهنا تكون الخسارة مضاعفة بدأ برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي قبل خمس سنوات تقريبا دعماً لتنمية القوى البشرية في المملكة وحرصاً على تنويع مصادر المعرفة من مناطق مختلفة في العالم. وكان من أهم أهدافه ابتعاث الكفاءات السعودية المؤهلة للدراسة في أفضل الجامعات في مختلف دول العالم، والعمل على إيجاد مستوى عال من المعايير الأكاديمية والمهنية من خلال برنامج الابتعاث، وتبادل الخبرات العلمية والتربوية والثقافية مع مختلف دول العالم، وبناء كوادر سعودية مؤهلة ومحترفة في بيئة العمل، ورفع مستوى الاحترافية المهنية. ولقد تزامن هذا البرنامج الطموح مع الاهتمام بالتعليم الجامعي؛ حيث ارتفع عدد الجامعات وخلال اقل من ثلاث سنوات من ثماني جامعات إلى أربع وعشرين جامعة تنتشر في جميع أنحاء المملكة. ولم يأت الاهتمام بتنمية القوى البشرية والتركيز على التعليم العالي من قبل خادم الحرمين الشريفين عفوياً، وإنما جاء بناء على خطة إستراتيجية طويلة المدى لبناء الإنسان السعودي المؤهل والقادر على التعامل مع المستجدات التقنية المتغيرة. ونحن اليوم على أعتاب السنة السادسة لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي بدأنا نلمس ثمرات هذا البرنامج الطموح من خلال رؤية أبنائنا وهم يعودون إلى بلادهم يحملون الشهادات العليا في تخصصات علمية متنوعة. ومع أن هذه الأعداد التي بدأت في الإياب من رحلة الغربة في التحصيل العلمي ما زالت محدودة العدد إلا أننا نتوقع خلال السنتين القادمتين وما يليهما من سنوات أعدادا اكبر من الخريجين الذين انهوا دراساتهم العليا التخصصية بنجاح، وعادوا إلى المملكة ليسهموا في البناء وليشاركوا في مسيرة التنمية. ولنا أن نتساءل عن ماذا أعددنا لهؤلاء العائدين؟ وهل مؤسساتنا الحكومية وشركاتنا الصناعية والتجارية استعدت لاستقبال هذه الأعداد المؤهلة من شباب هذا الوطن؟، أم أنها لم تضع أي خطط إستراتيجية لاستيعاب هذه الأعداد التي تتزايد عاما بعد آخر؟ وللتعرف على مدى الاستعداد لاستيعاب هذه الأعداد الضخمة من المؤهلين علميا نجد أن أقرب المؤشرات لدينا خطة التنمية التاسعة حيث تتناول موضوع تنمية القوى البشرية تناولا عابرا وعاما دون الاشارة إلى برنامج خادم الحرمين الشريفين الطموح للابتعاث، فبعد الديباجة المعتادة عند الحديث عن تنمية القوى الوطنية تشير إشارة عامة إلى أن توافر قوى بشرية وطنية عالية التأهيل والكفاءة هو شرط ضروري لتحقيق التنمية المستدامة، ثم تشير إلى أن هناك تنامياً في الفجوة بين العرض والطلب على القوى العاملة في العديد من المجالات مما استدعى استقدام العمالة الوافدة لتلبية هذا الطلب، مما جعل توطين الوظائف التي تشغلها العمالة الوافدة من التحديات الرئيسة التي تجابه العملية التنموية. كما تشير إلى تحد آخر وهو المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب من جهة، وبين متطلبات سوق العمل من جهة أخرى مما يتعين معالجته للوصول بالعنصر البشري الوطني إلى المستويات المهارية التي تلبي متطلبات سوق العمل. أين البرنامج من هذه الاستراتيجية المهمة لتنمية القوى البشرية لخطة التنمية التاسعة؟ وهل تتوافق استراتيجيات وأهداف الخطة وما يليها من خطط لاحقة مع التخصصات التي يحرص عليها برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي؟ الجواب بكل وضوح هو أن البرنامج ربما جاء بعد الانتهاء من صياغة استراتيجيات وأهداف خطة التنمية التاسعة وإلا لماذا لم يشَر إلى البرنامج أو على الأقل نوعية التخصصات التي يحتاجها الوطن؟ إن أكثر ما يقلقنا في الوقت الحاضر هو أن يعود هؤلاء الشباب الذين يملؤهم الطموح والتطلع للمستقبل ويفاجأون بأن القطاعات الحكومية والخاصة غير قادرة على استيعاب بعض تخصصاتهم الدقيقة فيعودون للقبول بوظائف عادية لا تتطلب مثل هذه التخصصات العلمية، وهنا تكون الخسارة مضاعفة ليس فقط على هذا الشاب الذي لم يستفد من سنواته الدراسية في العمل في مجال تخصصه، ولكن على برنامج الابتعاث الذي خسر الكثير من المال والوقت والمتابعة والنتيجة أقل من الطموح. وهنا نقطة جديرة بالمراجعة والتقويم تتعلق بمسألتين مهمتين لهما ارتباط مباشر بالبرنامج، أولهما ما يتعلق بالتخصصات العلمية فمن خلال المعلومات التي توافرت لدي والتي أتمنى ألا تكون صحيحة فلا يوجد لدى المسؤولين عن البرنامج أي تصنيف للتخصصات العلمية وفقاً للبرامج التنموية التي ستنفذ في المملكة خلال السنوات القادمة، وكذلك لا يوجد أي تنسيق حتى الآن بين البرنامج وبين التخصصات العلمية التي تحتاجها جامعاتنا سواء منها الجديدة أو القائمة.. ومما يعزز هذه الفرضية أن البرنامج لا يمكن أن يوافق على الابتعاث في مجاليْ العلوم الاجتماعية والتربوية بينما جامعاتنا بحاجة ماسة إلى هذه التخصصات لإكمال عقد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات. وأخشى أن ينتج عن اندفاعنا الآن تجاه التخصصات العلمية فقط، أن نلجأ إلى التعاقد من الخارج لهذه التخصصات وعلى الأخص في الجامعات الجديدة، ثم نضطر مستقبلا وربما في وقت قريب جدا إلى الاندفاع نحو تخصصات العلوم الإنسانية.. وهذا ليس معناه عدم أهمية التخصصات العلمية، ولكن لابد من المواءمة والسعي لتحقيق التوازن في جميع متطلباتنا بين التخصصات العلمية والإنسانية. والمسألة الأخرى ما مدى اهتمامنا بالتركيز على نوعية المؤسسات التعليمية التي يرسَل إليها أبناؤنا؟ فمن الملاحظ أن تجربة السنوات الخمس التي مضت أوجدت شكوى من عدم كفاءة أو ضعف بعض المؤسسات التعليمية التي ابتُعث إليها شبابنا.. وأخال أن المسؤولين في وزارة التعليم العالي حريصون على الجودة والكفاءة العلمية التي يحصل عليها أبناؤنا. ولقد نجحت الجهود في تحقيق جامعاتنا مراكز متقدمة في التصنيف الجامعي العالمي، فرأينا جامعتيْ الملك سعود والبترول والمعادن وهما تقفزان مراكز متقدمة في التصنيف العالمي، فماذا عن الجامعات التي يواصل فيها طلاب برنامج خادم الحرمين دراستهم؟ وماذا عن مستواها الأكاديمي؟ ولعل القرارات الأخيرة التي صدرت مؤخرا من وزارة التعليم العالي بإيقاف الابتعاث إلى دول بعينها، وجامعات بعينها يجيب عن هذا السؤال.. ولكن ماذا عن مصير الطلاب الذين يدرسون حاليا في هذه الدول وفي هذه الجامعات؟ آمل أن لا تصدر قرارات بخضوعهم لاختبارات قياس، واختبارات تحديد مستوى أسوة لما حدث لخريجي كليات المعلمين بعد انضمامها إلى وزارة التعليم العالي، أو ما حدث لطلاب معاهد التدريب الصحي؛ حيث اشترطت هيئة التخصصات الصحية اجتيازهم لاختبارات عامة في تخصصاتهم قبل تأهيلهم للعمل. لا أعتقد أن الوقت متأخر لتدارك موضوع الاستفادة من هذه الكفاءات الشابة التي سيقع على عاتقها - بإذن الله - بناء مستقبل هذا الوطن خلال السنوات العشرين القادمة.. فالمطوب المبادرة إلى تكوين لجنة على مستوى عال من الكفاءة والرؤية الاستراتيجية للتعرف على احتياجات المؤسسات الحكومية ومؤسسات التعليم العالي والقطاع الخاص على أن يشارك فيها ممثلون من الغرف التجارية ووزارة الخدمة المدنية والجامعات ووزارة العمل ووزارة التخطيط لوضع استراتيجية واضحة المعالم لاستيعاب أبنائنا وفقاً للتخصصات التي ابتعثوا من اجلها وبما يتفق مع احتياجاتنا التنموية وإلا سيكون الفاقد كبيراً لهذه الكفاءات المؤهلة التي سنجد انفسنا مستقبلا نتحسر على التفريط فيها.