مع غرابة الطرح إلا أنه من الضروري أن نكون صريحين مع الذات قبل أن نكون صريحين مع الآخرين، وفي تصوري أن جزءاً من بعض مشكلاتنا العامة كان بسبب عدم المكاشفة والمصارحة حول الحقائق. ومناسبة هذا الحديث هو ما أثير بسبب طرح أسهم الشركة التعاونية للتأمين من أسئلة واستفسارات من قبل عامة الناس حول مشروعية الاكتتاب في أسهم الشركة التعاونية للتأمين من عدمه، هو أمر غريب وعجيب خصوصاً أنه يأتي بعد نحو ثمانية عشر عاماً من تأسيس هذه الشركة وما يزال السؤال يطرح بهذا الشكل، وهنا أود إثارة التساؤل حول كيفية طرح أمر بهذا القدر من الأهمية الاقتصادية بهذا الشكل السطحي؟ في البداية أود الإشارة إلى أن التعاونية للتأمين قامت بهدف تلبية حاجة وسد فجوة كانت قائمة في المملكة كأول شركة وطنية متخصصة في قطاع التأمين، وقبل قيام الشركة كان المسئولون عن إنشاء الشركة قد أخذوا في الاعتبار الجانب الشرعي من التأمين ومزاولة أعماله وهو ما يتضح من اسمها الذي يعني أنها أسست منذ البداية على أسس ووفق مفهوم التأمين التعاوني المجاز شرعاَ من قبل هيئة كبار العلماء. ومشروع التعاونية للتأمين يعد وعلى غرار المشاريع الكبيرة التي لم تكن لتأتي لولا مبادرة الحكومة في الاستثمار في مثل تلك المشاريع التي تعد حديثة على المجتمع وبالتالي تكون الرغبة في الاستثمار فيها غير أكيدة إلى أن تثبت الجدوى الاقتصادية لها، حيث اعتمد رأس مال الشركة عند إنشائها بنحو 500 مليون ريال، دفع منها في حينه نحو 250 مليون ريال من قبل كل من صندوق الاستثمارات العامة بنسبة 50٪ والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بنسبة 25٪ وكذلك المؤسسة العامة للتقاعد بنسبة 25٪. وقبل الاكتتاب تم دفع باقي رأس المال. وقد حققت الشركة خلال عمرها العديد من النجاحات التي كان ينقصها الجانب الإعلامي حيث إن تاريخ إنشائها كان في العام 1986م وهو ما يعني أن عمرها تجاوز الثمانية عشر عاماً وهو عمر البلوغ والاستحقاق والمحاسبة. والسبب في اعتقادي الذي يجعلنا نؤمن بنقص الجانب الإعلامي للشركة كون الكثيرين يتحدثون هذه الأيام عن حداثة قطاع التأمين في المملكة سواء في الصحافة أو التلفاز وبالتالي اعتقد هؤلاء أن عدم معرفة الناس بهذا القطاع كان أحد الأسباب في عدم مشاهدة مستويات الإقبال الكبيرة على أسهم الاكتتابات الأخرى السابقة، وهو أمر غير دقيق. وفي تصوري أن الشركة لم تستغل نحو 18 عاماً مضت منذ تاريخ التأسيس في توضيح وشرح قطاع التأمين والدور الذي يمكن أن يلعبه في خدمة المجتمع السعودي الحديث بشكل يساعد الناس على الفهم الكامل للتامين كما هو مأمول منها رغم تحقيقها لنجاحات كبيرة لا نستطيع إنكارها وذلك منذ تاريخ الإنشاء سواء على صعيد تقديم الخدمات التأمينية على مستوي الخدمات الطبية أو المالية وكذلك على مستوى قطاع النقل والموصلات رغم ارتفاع نسب المخاطر التي عادة ما تصاحب التجارب الحديثة، ولكن الشركة قامت بهذا الواجب بشكل كامل وجيد. والمشكلة كما قلنا هي نقص الجانب الإعلامي وهي بطبيعة الحال مشكلة عامة لدينا حيث لا نتقن فن العلاقات العامة بشكل يسمح إذا صحت التسمية بتسويق الفكر بقدر ما نحن ممتازين في تسويق المنتجات الاستهلاكية التي غزت كل بيت وغرفة في مجتمعنا. وعودة على ما تم طرحه من تساؤل في البداية بخصوص وجود محاذير شرعية في التأمين! وهو كما ذكرنا طرح ينقصه كثير من الحكمة والتعقل وفيه كثير من السطحية، حيث شاهدنا وسمعنا وقرأنا عدداً من الآراء أن أحد أسباب عدم الإقبال على الاكتتاب في التعاونية للتأمين هو شرعية هذا القطاع! وأنا هنا لست بصدد الإجابة حول شرعية أو عدم شرعية التأمين، فليس لدي العلم والدراية التي تؤهلني لذلك وإنما هي وقفات واضحة وصريحة حول الآليات للوصول للنتائج أين كانت: أولا: يجب أن يكون هناك فصل كامل وكبير بين التحليل المالي أو الفني لموضوع تقويم الشركات وبين الأمور الأخرى التي قد يكون من ضمنها الجانب الشرعي للعمل أو القطاع. لا أتصور أن من المناسب لغير المتخصصين أن يتحدثوا للعامة من خلال القنوات الإعلامية باختلاف أنواعها عن وجود محاذير شرعية أو حتى توافق شرعي وهو ليس متخصص في هذا الموضوع خصوصا إذا ما علمنا أن الكلمة مسئولية ويجب تحملها أمام الله وأمام الناس. ثانيا: مصالح المجتمعات والأمم لا يمكن تحديديها من قبل متخصص واحد أو أكثر مهما أوتوا من العلم فما بالك بغير المتخصص أو المتخصصين، وإنما يجب أن تكون من خلال وجود المؤسسات التي تقوم بإجراء الدارسات المتخصصة والبحوث وبالتالي يتم تعميم النتائج بشكل علمي يتلاءم مع الفكر العام الموجود في المجتمعات حتى يتم تقبلها بشكل سلس ومنطقي. ثالثا: لماذا نصر على إعادة الأخطاء منذ سنوات ولم نتعلم من تجاربنا ولا من تجارب الآخرين، الأمور الاقتصادية وفقه المعاملات المالية على وجه التحديد يجب أن لا يكون خاضع للفتوى العامة بهذا الشكل الذي نمارسه منذ عقود، وإنما من خلال هيئات شرعية لديها الإلمام الكامل بالنواحي الشرعية والنواحي الاقتصادية الحديثة ودورها في خدمة المجتمعات الحديثة على حد سواء، فلا يمكن لنا إقفال الأبواب لأسباب شرعية دون فتح أبواب أخرى بدليه لها، وإلا أصبحنا نضيق على المسلمين بشكل يتناقض تماما مع رسالة وسماحة الإسلام والغايات التي أنزل من أجلها. هناك تجارب لدول أخرى يجب دراستها ومحاولة الاستفادة منها دون خجل أو تردد، واخص بالذكر من الدول الإسلامية تجربة ماليزيا ومن الدول المتقدمة غير الإسلامية التي بدأت بتشكيل مجالس وهيئات دائمة لمناقشة ودارسة الأعمال الاقتصادية التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية فهناك المملكة المتحدة والولايات المتحدة، حيث لم تأت تلك الدول بمتخصص اقتصادي وتطلب منه الفتوى ولم تجلب متخصص شرعي وتطلب من الإجازة لهذا المشروع أو ذاك، وإنما قامت بتشكيل مجالس متخصصة تتكون من متخصصين في الجوانب الفنية والمالية والاقتصادية والقانونية ومتخصص في الجوانب الشرعية الفقيهة. وهكذا يجب أن يكون البناء السليم الذي سوف يساعد على تقبل المسلمين لتلك المنتجات أو الخدمات حيث يعلمون أن هناك من تحمل المسئولية من خلال المؤسسات وليس الأشخاص الذي قد يكون لهم وجهة نظر في الغد تختلف عن ما كانت بالأمس مما يفقدها المصداقية والحيادية. وفي الختام أعتقد أن هيئة كبار العلماء لديها المؤهلون الذين يستطيعون القيام بهذا الدور سواء فيما يخص إجازة عمل مالي أو اقتصادي أو توجيه الناس لما فيه المصلحة العامة، وهي الجهة المسئولة عن إصدار الفتوى وليس الأفراد الذين لا نشك في مقاصدهم ولكن هذه ليست الطريقة السليمة المثلي التي تجعلنا قادرين على منافسة العالم في هذا العصر الذي أصبحنا نشاهد التحديات أمام أبوابنا، ولم نعد قادرين إلا على المواجهة بالتسلح بالعلم والآليات السليمة لمعالجة مشاكلنا والإجابة عن التساؤلات الخاصة بمستقبلنا. والله من وراء القصد. ٭محلل مالي