إنني على يقين أنه كلما أوجدنا حدائق كبيرة في كل مدينة وقرية، سنستغني عن عدد من مستشفيات الصحة العامة والصحة النفسية. معظم حدائقنا صغيرة لا تتعدى أطوالها مئة أو خمسين متراً، وأعرف هذه الأطوال جيداً لأنني أدور على محيطها الخارجي خلال دقيقتين يتهدد صحتنا خطران من صنع أنفسنا، التدخين والسمنة، ونقف متفرجين على نتائجهما السيئة على صحتنا وصحة الأجيال القادمة. وفي الدول المتقدمة تعاملوا مع التدخين بزيادة الضرائب، ومنع التدخين في الأماكن المغلقة، وتعاملوا مع السمنة بممارسة الرياضة والغذاء الجيد. تذكرت ذلك وأنا أشاهد ممارسي الرياضة من نافذة الفندق الذي سكنته في مدينة بيرث على الساحل الغربي من أستراليا، كان منظراً بديعاً عجزت آلة التصوير أن تختصره، ولن أستطيع نقل الصورة كتابة مهما أسهبت في مقالي، فأمامي نهر اتصل بالبحر مشكلاً بحيرة مفتوحة تلتف حول وسط المدينة، وبيني وبين هذه البحيرة مساحات خضراء عرضها في حدود خمسمئة متر، يفصلها عن البحيرة طريق سيارات ثم طريقان للمشاة والدراجات الهوائية وتتخلل هذه الممرات أشجار كبيرة زرعت في خطين متوازيين، ورغم أن الشمس للتو نهضت من مشرقها فإن سيل الماشين والمهرولين وراكبي الدراجات الهوائية لا ينقطع، بل في زيادة مستمرة مع تقدم الصباح، رجال ونساء من مختلف الأعمار هبوا لتسديد القسط المتوجب عليهم نحو الصحة والسعادة والحياة، منظر لم أره في أي دولة نامية، ولا حتى في بعض الدول المتقدمة. هذا المنظر يتكرر في كل مدينة وقرية أسترالية، جميع الشواطئ مفتوحة لا يمكن أن يقام عليها مبان، سواء كانت حكومية أو خاصة، سوى بعض المباني الصغيرة التي تحتاجها البلدية للصيانة والمراقبة أو بعض المقاهي المتناثرة التي تخدم المتنزهين. قمت بجولة على الأقدام بصحبة طالب سعودي داخل مدينة سدني امتدت ثلاث ساعات، بدأناها بحديقة البوتانك المطلة على البحر والتي تتجاوز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربعة، وانتهت الجولة بالحديقة الصينية الصغيرة التي تجاور السوق الصيني، والتي لها صبغة سياحية وتجارية وتحوي معبدا صينياً. قال هذا الطالب: حينما أتيت إلى هذه المدينة مبتعثاً من إحدى جامعات المملكة، كان وزني مئة وعشرين كيلو غراماً، أشكو من ضيق التنفس والتهاب القولون، والآن صار وزني ثمانين كيلوغراماً فقط، فقدت أربعين كيلو غراماً كنت أحملها معي أينما ذهبت، وأحتضنها حتى في المنام، والآن اختفى كل ما كنت أشكو منه من أمراض ولم يعد لها أثر، وأضاف: بهرتني المدينة بجمالها ومبانيها العمرانية المميزة، وحدائقها الكبيرة فبدأت أمشي كل يوم لساعات، حتى صارت صحتي كما ترى. أخذنا صوراَ كثيرة وخصوصا داخل الحدائق وأمام البحر والأوبرا التي بنيت قبل سبعين عاماَ، وانتهت الجولة إلى مسجد يقوم على نظافته والعناية به الطلبة السعوديون. في مدينة فرزبن الساحلية الجميلة ذهبت إلى الجامعة وإذا بها حديقة مفتوحة بلا أسوار وتشتبك مع حديقة البوتانك الكبيرة في وسط المدينة، حتى إنك لا تعرف حدود الجامعة من حدود الحديقة، يجتازها الطلبة والطالبات مشياً وعلى دراجاتهم الهوائية، ويتخذون من ظل أشجارها مكاناً للراحة. الحدائق كغيرها مفتوحة للجميع وليست للعائلات فقط، لكن النظام صارم بحق من يسيئ إلى الآخرين. معظم الشوارع والطرق السريعة تزينها الأشجار الكبيرة التي تزيدها جمالاً وروعة، ولم أر في شوارعهم أشجاراً مقلمة لصنع أشكال جمالية، بل أشجاراً باسقات تجود بالظل والعطاء. قال لي أحد الطلبة بعد أن توقفنا لنلتقط صوراً أمام إحدى البحيرات، لماذا لا تكون مدننا الساحلية والداخلية هكذا؟ هل غاب عن المخططين أهمية وجود حدائق وشواطئ وممرات مشاة متاحة للجميع؟ أليست صحتنا أغلى ما نملك وبدونها نصبح عالة على الآخرين؟ قلت له: للأسف معظمنا لا يدرك أهمية الماء والخضرة وممارسة الرياضة في حياة الشعوب. إنني على يقين أنه كلما أوجدنا حدائق كبيرة في كل مدينة وقرية، سنستغني عن عدد من مستشفيات الصحة العامة والصحة النفسية. معظم حدائقنا صغيرة لا تتعدى أطوالها مئة أو خمسين متراً، وأعرف هذه الأطوال جيداً لأنني أدور على محيطها الخارجي خلال دقيقتين، وهذا لا يتيح مجالا واسعاً لمن يرغب في مارسة رياضة المشي أو الهرولة أو ركوب الدراجات الهوائية، جميع المدن الكبيرة في الدول المتقدمة بها حدائق كبيرة تفخر بها وتعد من أهم معالمها السياحية ولن تقايضها ببلايين الدولارات، بل إنها أهم من المجمعات التجارية التي صارت تحتل معظم شوارعنا، والعمارات السكنية التي تكتظ بها مدننا وتزداد يوماً بعد يوم. كيف سيكون جمال كل مدينة من مدن المملكة لو كان بها عدد من الحدائق الكبيرة؟ ماذا لو قام كل مقتدر أو مسؤول عن وقف في شراء أرض أو أراض ثم أوقفها كحديقة أو حدائق في أكثر من مدينة وقرية لتصبح رئة تنقي الجو من عوادم السيارات وتلطف الحرارة في الصيف ويمشي فيها كل محتاج للرياضة والراحة والعلاج، ويلعب فيها الأطفال بين الأشجار ومع الطيور وقد تقام على أطرافها المدارس والمستشفيات؟! وأعتقد أن أجر هذه الحدائق عند الله لن يقل عن أجر أي مرفق آخر مهم، وسيدعو كل من يستفيد منها لمن أوقفها حتى قيام الساعة إن شاء الله. الكل يعلم مدى تفشي داء السمنة بين المواطنين حتى وصل إلى خمسين في المئة بين النساء، والسمنة إعاقة وحاضنة لكثير من الأمراض. أملي كبير أن يقوم أمراء المناطق ومحافظو المدن ورؤساء البلديات بوضع الحدائق الكبيرة ضمن المخططات الحالية والمستقبلية، ليكونوا شركاء في الأجر العظيم، ولعل الأودية تحول إلى متنزهات تزرع بأشجار البيئة كما هي الحال في وادي حنيفة، وتسقى بمياه الصرف الصحي المعالجة، كما أن ما تعيشه المملكة من رخاء ووفرة مالية هي فرصة قد لا تتكرر لنزع ملكية بعض الأراضي وتحويلها إلى حدائق كبيرة وشواطئ ممتدة عامة للجميع.