وأخيرا ، ها نحن في مبنى الجناح السعودي الذي على هيئة مركب من الألمنيوم أو مثل سفينة فضائية واقفة بشموخ في الهواء، ولجنا ليأخذنا المسار الحلزوني الصاعد يدور داخل المبنى والذي أطلق عليه الشعب الصيني اسم (رواق الفن) يدور الممر الحلزوني صاعداً يعرض 180 لوحة فنية ، من تصميم الفنانة لولوة الحمود وتخطيط الخطاط مصطفى أبوعرب، قامت لولوة الحمود بتصميم أبيات قصائد الأمير بدر بن عبد المحسن لتتحول للوحات فنية مختزلة، تتعاقب بجانبها شاشات تليفزيونية تعرض مشاهد من المملكة: " من طريق الحرير لهنا جئنا، من قلب الرمل انبثقت حضارتنا وتحولت لصروح علمية ومركز أعمال وصناعة اقتصاد " ، لوحات احتفائية سنكتشف أن 70% منها من تأليف الأمير منصور بن متعب، وزير الشؤون البلدية والقروية. وعلى جمال تلك اللوحات من أطياف صحارينا وشموسها كنا ما زلنا بانتظار المفاجأة التي تستحق تلك الساعات التسع من الانتظار. " الجمهور بحاجة لصدمة الآن.." وراودتنا فكرة الانسحاب لكيلا نشهد خيبة أمل الجموع، وبقلوبنا على أيدينا واصلنا صعود ذلك المرتقى، يتعاظم يأسنا من إمكانية أن تحدث معجزة تبرر للجموع صبرها وبللها والتعب الذي لايزال يدغمها في عجينة واحدة. فجأة لاحت تلك البوابة الضيقة مثل بوابة جانبية لدخول قاعة مسرح، وبدأ الحرس ينظمون ولوجنا للداخل، وانغلقت وراءنا البوابة حين وطأت أقدامنا المرتجفة ذلك السير المتحرك، وشاع الظلام، ودارت بنا الأرض . أخذنا السير الدائري المتحرك الى داخل قلب شاشات ضخمة تحيطك كجبال تتوالى ولا تشعر بانفصالها كسور عظيم ، أطل علينا هنا في هذه النقطة الملك عبد الله بن عبدالعزيز وهو يصافح الرئيس الصيني مؤكداً في تلك اللقطة الذكية الخاطفة الصداقة القائمة بين الشعبين ، وانحنت على الشاشة أجساد ضاحكة لأطفال صينيين في تحية مرحة لأطفال سعوديين. تحرك العنصر البشري الخاطف على الشاشة خلفنا ليصافح الأفواج القادمة ، لنحلق مع صور فضائية فوق مدن الأنابيب والفولاذ الصناعية ، مدن الأبراج الاقتصادية ، مدن المصطبات وحجر المرو الجبلية ، مدن الناقلات الساحلية مدن الواحات الترفيهية ، والعاصمة الرياض والعواصم الدينية. تتعاقب تأتي إليك برشاقة ، بسرعة ذكية مدروسة ، أو أنت تذهب اليها بشوق ، سبع شاشات ضخمة مهيمنة تنحني عليك ، تغمرك بكرم ، مقتربة تارة فتشهق لضخامتها وتبتعد أخرى فتسمح لك بالتقاط الأنفاس بينما تسحرك لأجوافها، كنا في مَدٍّ وجزر.. آه !! تسري في بدني رعدة : هاهي المرأة السعودية على الشاشة تكشف عن شموخ وجهها بوسامة واحتشام ، هنا تأخذ هذه المرأة المناضلة المساحة التي تليق بتاريخها الطويل المستتر هناك... تمسح رفيقتي دمعة لتلاحق ملاحة ابتسامة هذه السعودية العاملة ، وهي تحرك أصابعها المطلية على لوحة كمبيوتر بحرفية واثقة، وخلفها حامل المصحف ولحية القارىء المستغرق .. يهمس والد اثينا " قولي لهم : التصوير مذهل في جودته. درجة الصفاء تدل على تقنية عالية.." اختلط صوت أثينا بهمهمات الإعجاب حولنا... تتعلق الأعين بخط الأفق تلاحق فسيفساء حاويات البضائع الموقوفة في الموانىء الضخمة تتناغم مع فسيفساء خيام الحجيج في منى وعرفات ، ثم تقترب لتختطفك صورة علوية للحرم المكي، تظهر الطائفين وظلالهم تسري كنمل ، يتحرك بتناغم برادة الحديد ينجذب ويتكتل حول بيت الله الذي يجذبه كمغناطيس. وتجاوبها بجسدك ذات البرادة، تتبعثر بصحن الطواف خلية في طواف المخلوقات وتسري مع الجسد الكلي للجموع حولك في الكون . تنصهر في فسيفساء قصة تفاعل الإنسان مع حضارة مادية تدعمها حضارة روحية متأصلة، تقترب منك وتأخذك لجوفها لتصير واحداً مع أهلها. يتحرك السير المعقوف لنهاية تلك اللوحات ، ويجيء بنا لمنطقة الدهشة حيث تجسد أمامنا ذلك الحاجز الأزرق الشفاف من بخار ساقط من السماء، ما إن عبرنا تلك الستارة من بخار حتى ترقطت وجوهنا بقطرات عرق ودُفِعَ بنا لوجود رباعي الأبعاد 4D وتحررت الأرواح في شهقة (واو): ... في لمحة كنا كما في جوف مركب يلفحنا حر الجزيرة ورملها ، وعاجلتنا موجة انحنت علينا وغمرتنا في مد عظيم ، ثم ومن حيث لا نعلم انشقت تحت أقدامنا بحار الجزيرة العربية، تجرفنا لقلب محارة كنوزها المدفونة لنغوص لعجائب شعابها المرجانية وأحيائها البحرية.. وشاعت في ريقنا ملوحة البحر وانتشت الجموع وعلت همهمات ثم ضحكات لا إرادية وصيحات إعجاب.. هي غطسة خاطفة ثم رُفعنا ، ليقذفنا جريان المركب للرمل الخالد ما بين ضفتي نصف قمر وعروس بحر ، حيث تعرجت بنا الكثبان ولامسنا رمل عظيم ، لم نعد محمولين على سير متحرك وإنما سرنا حفاة في كون كامل هو الجزيرة بكل غموضها وروحانيتها وسحرها .... وليتنٍجم علينا الليل بتضفيرات الارابيسك الضوئية تُغَطِّي الأعمدة الضخمة، وتجرف هندستها الملونة عجينة الأجساد المستسلمة لهذا الشبكة من الغزو السحري البديع .. نقشعر من الرأس لأخمص القدمين ونشخص لنتماسك فلا نرى غير أشباح الشخوص المسلوبة من أمام ووراء، والتي تقف قادمة أومغادرة على صراط بعيد، دُمى قاتمة تلاحمت في خلايا كيان جزيرتنا العربية العظيمة ، حيث قشعريرتك ذرات رمل تحفر فسيفساء الحياة ! لم تكن تلك مجرد رحلة انبعاث لمدنٍ وإنما تلخيص لحضارة كاملة، ولقدرة على الإحياء ، هنا تجرى بين يديك وقدميك شرايين هذه الحياة المعجزة المتفجرة من القحل العظيم، تشهد أمامك انجرافاً كونياً من الماء للرمل للحياة، تتبع شبكة أنابيب النفط وهي تتحول لشبكة طاقة وبناء ، تجري مع شبكة الطرق التي تخترق في الرمل وتتعرش على جانبيها أنسجة المدن التي تتواصل وتخضر لرخاء الإنسان . وفي لمحة تتحوصل فسيفساء تلك الحضارة الجغرافية المادية لتنفرط من الأعلى بحراً من الأبيض يكشف عن أكتاف عارية تتناكب لحجيج من كل الأجناس والألوان في حجها نحو الواحد الأحد .. هنا طواف المد الروحي الذي يشفُّ ويرقُّ في زفرة تترقرق وتتماوج لتنبسط في شهادة أن لا إله إلا الله . بلا مقدمات ولا افتعال تنبُتُ تلك الشهادة من أجسادنا...ثم تسقط ( قطرة الماء) لتختم تلك الرحلة في روح الجزيرة. تنفتح البوابة الضيقة لذلك الرحم الكوني لنُقْذَفَ بلا رحمة لخارج ذلك الكون الباطني المستمر في التحور والتلاحق وتحوير الموجودات! نتقدم ربما بصرخة أو بخطوات راعشة، نستوفي تلك الولادة التي حصلت للتو. نجد أنفسنا مرة أخرى في رواق الفنون ، لندرك أن التصميم الحلزوني الصاعد يرمز لفكرة الانبثاق من الرمل، الحضارة أو المد الروحي الذي تصاعد من الصحراء مترقياً حاملاً في ركابه الشعوب. يأخذنا للسطح، والذي ينفتح على مدينة شانغهاي، لسمائها المكفهرة بالغيم الأسود وللممر السماوي الدائري الحار، ولأنوارها الزاهية لكأنما من لعبة فيديو صارخة، تُدرك الرسالة في تصميم المبنى : مركبُ قمرٍ يشق سماء شانغهاي ويتماهى مع بهائها، ينقل رسالةً بلا كلام : نمخر البحار إليكم حضارةً بحضارةٍ ، نتواصل ونتحاور ونتناسج ، لنبعث طريق الحرير من أعماق التاريخ . من الأعلى تقف تتأمل ، وتنكشف لك سرادقات الدول التي تتبارى لخلق مدن أفضل وحياة أفضل .. ويصلك حوار الجماعة تلخص تجربتها : حين تسمو الروح تنجلي الرؤية لغد أفضل في الأسفل .. لا نكتفي ، لكننا نضطر لتوديع الجماعة التي رافقتنا في هذة التجربة الفريدة. لا نعود نعرف أن كان عَرَق الرحلة لحقيقة الجزيرة هو الذي لا يزال يضخ من أجسادنا أم مطر شانغهاي. نقصد المَخْرَج الوحيد للسطح الذي يقودنا ثانية للرواق الذي يقود هذه المرة للأسفل ، نتأمل من على الحاجز في الأعلى قبل النزول ، وتستقر أبصارنا على بئر المركب المفتوح بقلب المبنى. يلتف المسار وسط المبنى في حركة حلزونية تنتهي في القاع بنافورة .. نقف نرقب حركة نزول الجموع تطوف هابطة في حركة معاكسة لحركة الجموع الصاعدة .. موسيقى كونية لا تفتر ، كما حال الدنيا.. تبعنا الحركة الهابطة حتى حاذينا بوابة العرض ، ألقت شادية نظرة حسرة للكون الفريد في الداخل ، هتفت : -" لو أن بوسعنا رؤية العرض مرة أخرى! " تسمَّرنا أمام البوابة خلف الحرس الصيني الصارم الواقف ليضمن عدم تجاوز الحواجز واختلاط الصاعدين بالهابطين المتشوقين للتسلل لدخول المسرح ثانية . بلوعةٍ أشارتْ شادية للحارس: -" نريد الدخول! " أشار الحارس للخارج البعيد بحزم ، يقصد أمرها بالعودة الى الخارج أول الطابور ، حاولت شادية استعطافه بكل الوسائل ، لكنه اكتفى باشارات منع صارمة باتة . إلى أن انفرجت الرؤوس ولمحنا ذلك الوجه الصحراوي الأسمر يقف بجانب الباب، -" ذلك الرجل الواقف يسار باب المسرح في بذلته السوداء مرتدياً حول عنقه بطاقة تصريح ، يبدو أنه من المنظمين للمعرض السعوديً، وقد يساعدنا على الدخول! " مهما تقافزنا ولوَّحنا له حجبتنا الجماعة الداخلة للمسرح ، وفشلنا في لفت انتباهه . بدا الرجل ساهماً في وقفته مستغرقاً في التفكير ينظر للأرض ولا يرى أحداً، -" أرجوكَ نادي لنا ذلك الرجل.." رَجَتْ شادية الحارس الصارم، بعد تردد تقدم الحارس من الرجل الساهم لافتاً انتباهه مشيراً له صوبنا، بدت الدهشة على وجه الرجل لكنه تقدم منا، فبادرته شادية، -" أنا سعودية وأريد رؤية العرض مرة أخرى." -" أرجوكَ العرض مذهل ولاتزال القشعريرة تتلبسنا لروعته، نحتاج رؤيته مرة أخرى.." -" يا مرحباً.." ودون أن يتعرَّف إلينا أو نتعرف إليه فتح لنا الحاجز وقادنا للمسرح، وتركنا للسير المتحرك ، وغادر.. بلا مزيد من الكلمات خضنا الرحلة من جديد، والانجراف مع الرمل لحياة باطنية ، وحين غادرنا كان الرجل لا يزال واقفاً يرقب الجموع التي لم يكف زحفها، وكان برفقته ذلك الرجل بلمحة صينية طفيفة وفي الثوب السعودي . تقدمنا لشكره، فبادرنا الرجل في الثوب: -" أقدم لكما الدكتور عبد الرحمن آل الشيخ، وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية.. الرجل الذي وراء هذا المشروع الضخم ." وقام الدكتور عبد الرحمن آل الشيخ بتقديم الرجل في الثوب :" عبد الحميد حسن عبدالله مدير الجناح.. " -"من الأخوات ؟ " -" شادية.." ما إن نطقت شادية بالاسم حتى هتف الأستاذ عبد الحميد: -" أوووه شادية عالم يادكتور ، الفنانة المشاركة في معرض نبط ؟! وأنت بلا شك رجاء؟؟" والتفت للرجل في البذلة السوداء، -" ياللمصادفة ! أينكم ؟! كنتم موضوع حوارنا هذا الصباح ! " -" فعلاً مصادفة، لقد كان الدكتور بسبيله للانصراف حين توقف فجأة وقال لي: اصرف السيارة يا عبد الحميد..أريد الرجوع للبافيليون لأجد حلاً لساعات انتظار البشر الطويلة! تركني الدكتور ورجع لهنا، لهذه الوقفة حيث عثرتما عليه.. هي أمور تترتب بقدرة إلهية غير منظورة لتقودنا لأقدار لم تخطر لنا على بال.." -" هذا من حسن حظنا لكي تتاح لنا فرصة مشاهدة هذا الفيلم مرة أخرى بلا عناء.." -" هذا من حسن حظنا ، لكي نلتقي مع الجندي المهندس وراء هذا المشروع الفريد ! " وصمم الدكتور على استضافتنا، وإنعاشنا بالضيافة السعودية ، بعد الوقت الذي قضيناه في طوابير الانتظار .