مايبدو لي أن علاقتنا بالطعام اختلت في العصر الحديث ولم تعد تسير بشكل طبيعي كالماضي.. ففي العصور القديمة كان الطعام بالنسبة للإنسان مجرد وسيلة للبقاء والاستمرار، أما اليوم فتحول من (حاجة) إلى متعة وترف ووسيلة تلذذ.. وفي الماضي كان الطعام شحيحا لدرجة كانت المجاعات تأتي بشكل دوري، وكانت أمراض التغذية هي سبب الوفاة الأول، أما اليوم فاختفت المجاعات وانتشرت السمنة وأصبحت أمراض البدانة سبب الوفاة الأول حتى في أقل المجتمعات دخلا وثراء.. وبعد أن كان يخشى على الأطفال قديما من الوفاة بسبب قلة الطعام وسوء التغذية أصبح يخشى عليهم اليوم من الوفاة بسبب السمنة وإدمان المأكولات السريعة!! والعجيب أكثر أن الرشاقة والنحافة لم تصبحا مرتبطتين بالجمال إلا في العصور الحديثة فقط.. فحتى ثلاثمائة عام مضت كانت النساء السمينات هن الأكثر جمالا وإغراء فى نظر الأوروبيين بدليل لوحات الرسم القديمة (بل وكان وجود رجل بدين في أي سيرك أوربي قديم عنصر جذب أساسيا للجمهور).. أما في قصور العباسيين والعثمانيين فكانت الجواري لا همّ لهن غير ازدراد كميات كبيرة من الطعام لنيل رضا الحاكم والبقاء ضمن حريم القصر.. وحتى وقت قريب كان مهر المرأة في بادية الشام يحدد بوزنها وقطر الحبل الذى يلف حول عضدها (ومايزال كذلك في موريتانيا التي كتبت عنها مقالا بعنوان: آخر معاقل الجمال الثقيل)!! ... وكل هذه التغيرات تؤكد بأن البدانة أصبحت هي الداء الأكثر انتشارا هذه الأيام وظاهرة جديدة وغير مسبوقة تنبأ بظهورها نبينا محمد حين قال: "ينشأ أقوام يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ويفشو فيهم السمن"! ... ولاحظ أن هذا على مستوى المجتمع وتغير العالم أجمع... أما على المستوى الفردي والشخصي (فمن المفترض) أننا لا نأكل حتى ترسل المعدة إشارة بالجوع تؤكد للدماغ فراغها وحاجتها للطعام.. وبعد أن تأكل وتكتفي ترسل إشارة معاكسة بالشبع وضرورة التوقف عن تناول المزيد.. وكانت هذه الآلية هي السائدة منذ الأزل وتنظم علاقتنا بالطعام بشكل طبيعي وبدهي دون الدخول في تعقيدات الريجيم والوزن المناسب بدليل حديث {نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع... وكان من السهل في الماضي التقيد بهذه المعادلة بسبب شح الطعام وعدم توفر بدائل غذائية كثيرة أو مغرية.. أما هذه الأيام فتسببت وفرة الغذاء باختلال هذه الآلية الربانية وأصبحنا نأكل ليس بدافع الجوع بل بحكم العادة والتلذذ والاستمتاع (خصوصا في ظل وقوعنا تحت تأثير الدعايات والاعلانات والمنتجات المتنوعة).. ولأننا ندرك خطأ مانفعله أصبحت علاقتنا بالطعام ترتبط بردود الفعل وضغوط الإعلام ومايخبرنا به الميزان وليس ما تخبرنا به إشارات المعدة.. وحين نصل لهذه المرحلة (من التحسس والتنبه المفرط) ينتكس البعض فيقع تحت تأثير الإدمان والإفراط بالطعام، في حين يحرم البعض الآخر نفسه ويفقد أياما جميلة من حياته طمعا في الرشاقة ومقاسات "عارضات الأزياء"!! ... الحل باختصار هو استعادة علاقتنا الطبيعية بالطعام والاعتماد بالتدريج على إشارتيْ الجوع والشبع لتحديد متى نأكل ومتى نتوقف ، بل وتعليم أطفالنا أهمية التصرف من خلال هاتين الإشارتين فقط لتنظيم عاداتهم الغذائية ! ..... أيها السادة ... قد لا يكون هناك أصل لحديث {نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ولكنه بدون شك مبدأ صحي عظيم من شأنه إعادة "تطبيع" علاقتنا بالطعام والتخلص من ظاهرة السمنة وأمراض البدانة التي تتفاقم في المجتمع!.