كان قديما يشار للطفل البدين بالبنان، أما الآن فأصبح أمر السمنة شائعا حتى في أصغر الأعمار، فهل تغيرت عادات الإنسان؟ أم تغيرت قواعد الأوان؟ أم اجتمع هذا وذاك فكان النتاج سمان يرزحون تحت وطأة عبء ثقيل يظلم جسدهم الغض الطري؟ قصة البدانة تستحق الاهتمام، فهي جذابة بسردها، مؤذية بحقيقتها، وردهاتها تنتظر استكشافها حتى لا تباغت أبناءنا في عصر جله غذاء مثير ومآكل مما لذ وطاب، حول هذا الموضوع كان اللقاء التالي مع الدكتور عبدالمطلب بن أحمد السح استشاري طب الأطفال وحديثي الولادة في مستشفى الحمادي بالرياض وعضوالجمعية الوراثية الأمريكية والجمعية الأوروبية للوراثة البشرية. بداية ما هي البدانة؟ البدانة ليست مرضا بحد ذاتها، فهي عرض ومظهر يخفي تحت عباءته تراكما زائدا للدهون في الجسم، هناك الزيادة بالوزن التي لا ترقى لدرجة البدانة، وهناك البدانة التي تمثل المشكلة حقا، إن مجرد أخذ وزن الطفل لا يكفي لتشخيص البدانة، فهناك أطفال بجسم رياضي وهيكل عظمي ضخم وطول زائد، وفي الممارسة الطبية هناك مقاييس ومخططات تساعد مع الفحص السريري بتحديد البدانة وتعيين شدتها. ما هوالسبب الكامن خلفها؟ أسباب عديدة، هناك ما ندعوه بتوازن الطاقة الإيجابي حيث يتناول الطفل طعاما زائدا على حاجته، ومع الزمن يتراكم الفائض، أما لماذا يتناول الطفل الغذاء بشكل التهامي زائد، فالعوامل عديدة من نفسية وعصبية وغدية نخامية ودماغية وهرمونية وحتى وراثية واجتماعية وثقافية وبيئية، إن عوامل البيئة المحيطة تأتي بالطبع في المقام الأول، فالطفل يقلد ذويه، وكذلك فإن الطفل الذي يفقد الحنان والمحبة ربما يعوض عن ذلك بجعل الطعام حبيبه، فيلتهم منه ما تصل إليه يداه، والنتيجة بدانة ليس إلا، إن جسم البدين يمكن أن يقاوم الأنسولين فيزداد هذا ويساعد في عدم حل الدهون وبالتالي تخزينها وزيادة السمنة، كما أن تعويد الرضيع على الزجاجة كلما اشتكى أوبكى أمر غير محبذ، حيث أنه يخلق لديه عادة اللجوء للطعام كلما ضاقت عليه السبل، إن إدخال الأطعمة الصلبة عالية الحريرات باكرا بشكل غير ضروري يمكن أن يؤدي لزيادة وزن سريعة، كما أن نمط التغذية وحياة الراحة والكسل ومراقبة التلفاز وألعاب وبرامج الكمبيوترلساعات طويلة ونقص الجهد ومعاداة الرياضة والإعتماد على الوجبات المتعددة والسريعة والمآكل الجاهزة المكتظة بشحومها كلها أمور وثيقة الصلة بالبدانة. أين وعند من تكثر؟ إن الأجيال الحالية أطول وأوزن مما سبق من أجيال على الأقل خلال القرن الأخير، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن البدانة الصريحة تنتشر في زماننا أكثر، وعند معظم المجتمعات مع اختلاف النسب، ففي كندا تتراوح نسبتها من 7-43%، وفي بريطانيا 7,3%، وفي الولاياتالمتحدة 10-15%، أما في المملكة العربية السعودية وصلت البدانة نسبة 20% عند الذين تجاوزت أعمارهم ال 15 سنة، وذلك بواقع 10,7% عند الرجال، و27,4% عند النساء، كما وصلت نسبة 28% عند الذين كانت أعمارهم 30-64 سنة، وذلك في العقد الأخير، وهي من النسب العالية جدا على مستوى العالم، أما فيما يتعلق بالبدانة المفرطة فقد نشرت دراسة عام 1996 كانت فيها نسبة البدانة المفرطة في المملكة 20%، أكثرها عند النساء، يقابلها 2,7% في اليابان، و11% في هولندا , و13,5% في الولاياتالمتحدة، و44% في الكويت، تكثر البدانة بين أهل المدن نسبة للأرياف، كما أنها تكثر في المستويات الراقية اجتماعيا واقتصاديا أكثر، وتختلف النسبة حسب وجود بدانة عند الأبوين، وحسب ثقافتهما، وحسب عدد أفراد الأسرة ونمط الفعاليات المتبعة، والبدانة لا تفرق بين ذكر وأنثى. ما هي مظاهر البدانة؟ يمكن أن تظهر البدانة بأي عمر، وبالنسبة للأطفال فإنها أكثر ما تكون خلال السنة الأولى من العمر وبعمر 5-6 سنوات وخلال المراهقة، تظهر على المصاب كتل الدهن المتراكمة «البعض يدعوذلك صحة!!»، وتنموأثداء الذكور، وتتدلى البطن وتتهدل وتصبح رخوة ويوجد عليها خطوط بيضاء أو أرجوانية غالبا، وتبدوالأعضاء التناسلية للذكور صغيرة نسبيا بسبب انغمارها ضمن الطيات الشحمية، يمكن أن يحدث البلوغ باكرا، وبالتالي يكون الطول النهائي أقل منه عند الأنداد، بدانة الأطراف أكثرها في الذراعين والفخذين، أما الأيدي فتبدوصغيرة والأصابع قصيرة نسبيا، ويكثر حدوث الميلانات في مفصل الركبة، ويعاني الطفل من شدات وصعوبات نفسية واجتماعية، ولا يخلو الأمر من مضايقات في المدرسة والمجتمع وحتى في البيت. هل هناك أمراض تقلد البدانة؟ نعم، هناك داء كوشينغ الذي ينجم عن زيادة هرمون الكورتيزون وهناك قصور غدة الدرق ونقص هرمون النموومتلازمة تورنر الصبغية وغيرها، ولكن كل هذا لا يشكل أكثر من 1% من حالات البدانة عند الأطفال. ما هي الإختلاطات والمشاكل التي تجلبها البدانة؟ عديدة، فالطفل البدين يتوقع أن يكون بدينا في المستقبل، حيث ان (10-30%) من الكبار البدينين كانوا بدينين في صغرهم، كما ستكثر لدى البدين أمراض القلب والعروق الدموية، ويرتفع ضغط الدم، ويزداد الكولسترول والشحوم الضارة في دمه، وكذلك الأنسولين وحالات السكري، وتكثر حصيات المرارة، والإصابات العظمية، وضيق النفس، وهناك اختلاط نادر يدعى متلازمة «بيكويث» التي تشتمل على مشاكل قلبية وتنفسية خطيرة للغاية، وقد يحدث ما يدعى بالورم الدماغي الكاذب، والأمر المرعب هوكثرة حدوث الوفيات بأعمار مبكرة. إن النسب العالية للسمنة في الدول العربية لتدعوإلى القلق، حيث إن المستقبل سيحمل العديد من التحديات الصحية والإجتماعية وحتى الاقتصادية إذا لم يتم تدارك الأمر سريعا وبشكل جدي. كيف يتم تدارك الأمر؟ بالوقاية، «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع»، هذا هو العنوان الصريح، يجب أن يكون الطعام وقت الجوع خصوصا في الطفولة الباكرة، ويجب الإبتعاد عن عوامل الجذب والإثارة الغذائية وتنظيم أوقات الطعام، يجب تعويد الأطفال وقبلهم ذويهم على الرياضة والتمارين والوجبات المناسبة والمتوازنة، مع الحرص على الوزن المثالي ليس لأسباب جمالية فحسب وإنما لغايات صحية أيضا. وماذا حول العلاج؟ يعتمد العلاج على تقوية الإرادة عند الطفل، وإدخاله بنشاطات رياضية يومية منتظمة، وخصوصا في ظل طبيعة الحياة العصرية التي جعلت الكسل ملازما للإنسان معظم يومه، يجب أن تكيف الوجبات ومحتواها الحروري، وكذلك تحوير سلوك الطفل، إن الوجبة يمكن تعديلها بحيث تصبح متوازنة الحريرات وبنفي الوقت تلبي كل المتطلبات الغذائية الضرورية وبشكل لا يضر نمو وتطور الطفل، يجب إضافة الفيتامينات إذا ما شعرنا بنقصها، وخصوصا فيتامين «د» أثناء مراحل نموالطفل، إن إشراك العائلة بخطط العلاج والمراقبة والضبط والمتابعة ضروري، لا بل حتى إشراك الطفل نفسه بذلك، أما عمليات الكبار من جراحة وأدوية ووضع بالونات في المعدة فلا تناسب الأطفال إطلاقا. أثناء العلاج لا نحبذ حدوث نقص وزن سريع، ويجب أن تستمر المراقبة الطبية حتى بعد إنقاص الوزن، وأن نحافظ على زيادة الطول، ونقدم الدعم النفسي المطلوب، ويبقى الصبر هوالأساس في حل مشكلة تمثل تحديا طبيا، وفي حال البدانة الناجمة عن أمراض وحالات معينة فإننا نعالج السبب ما أمكن. هل من أمثلة من الممارسة العملية؟ راجعتني ذات يوم أم مع طفلها الذي لم يتجاوز السنتين، كان يفترض أن يكون وزنه (12 أو13 كغ)، وكان وزنه على ما أذكر (20 كغ) فقط!، وللعجب فإن أمه كانت تطلب مني أن أصف له فيتامينات كي تزيد صحته وبالطبع المقصود وزنه!!، وفي يوم آخر راجعني طفل عمره 9 سنوات بزكام على ما أذكر، وكان وزنه يزيد عن وزني بما لا يقل عن 30 كغ، وكانت أمه للأمانة تريدني أن أزيد من نصائحي له كي يتخلى عن بعض وجباته السريعة، في القصة الأولى لا أستطيع إلا أن أشير للأم كطرف في الموضوع، وفي القصة الثانية ما يقلق هوأن الطفل قد وصل لوزن قارب المئة، وما يفرح هومحاولة الأم الوصول لبعض الحلول. وفي الختام: حقيقة لقد تدلت كروش الكبار فصار الصغار يقلدونها بقصد أومن غير قصد غالبا غبر تقليدهم لعادات الطعام، وأضحى المراهقون يقلدونها بقصد اعتقادا منهم أن الكرش علامة أساسية من علامات النضوج والرجولة، وبالمحصلة المشكلة لها طرفان المجتمع والطفل، ولا بد من إعادة النظر بعادات ربما ليست من عاداتنا. إن الخلاص من البدانة يستحق المصاعب التي تواجهنا أثناء تدبيرها سواء على صعيد الفرد أوالمجتمع، حيث إن القضية جدية تماما، حقا يجب ألا نفرح كثيرا من منظر طفل بالكاد يتحرك، والذي يقابله منظر طفل رشيق الحركة والقد والقوام يسر الناظرين، الفرق كبير والله أعلم.