عند ما تحركت "كتيبة" الأطفال صباح ذلك العيد لتجوب منازل القرية؛ كنا قد وضعنا في الأذهان بعض البيوت التي ستجود علينا ب"العيدية" التي كنا لا نعرف لها اسماً آخر، ولا يهمنا ذلك، إلاّ أننا عرفنا فيما بعد تسميتها عند أهل المدن ب"القرقيعان" مررنا اولاً بأبو "تختوره"، وهو عجوز ثري لكنه شديد البخل؛ كان يمد ساقيه في الشارع "المُغبَرّ" قرب منزله فتجاوزناه مرددين أهزوجة الاستجداء المعتادة على لحن عرضة الحرب "عمرونا عمر الله داركم"، وطرقنا باب النساء عندها خرجت علينا زوجته وهي تحمل "قوطي السكر" الذي فتحته وبدأت توزعه في جيوبنا، وهي تردد جملة من عبارات الاعتذار، مضينا بعدها لاستكمال دورة كاملة في الحي الصغير لنعود مرة أخرى إلى "أبو تختوره" الذي لا يزال في مكانه، تحلقنا حوله لنستفزه هذه المرة بشتيمة البخلاء الذين لا يقدمون لنا شيئاً، وصاح أكبرنا "يالله يا عيال شيلوا" عندما شالت تلك الاشداق المائلة وبصوت واحد: الخنفسانه تدبي على عسيب الهدبي جت عايد بالمقمة جت له تبغى تخمه وتحطه بالخرارة لما يطير أغباره ..... (الخ). هرب الجميع بعد ان رأوه يتململ بغضب ويداه تتغلغل في عمق التراب قبل أن يكثه في وجوههم، بينما وقفت في مكاني رفع رأسه ثم قال، وهو يُمسّد لحيته الحمراء و"ينقش" أسنانه من بقايا وجبة العيد "ورى ما تلحق دشيرك يالهايت؟"، لم أرد عليه وبقيت صالباً لرفع درجة غليان غضبه، وعندما كررها مرة أخرى: "أنت أصمخ"، أقول "ورى ما تذلف يالداشر مع دشيرك"!، قلت "ماني ذالف وش بتسوي يالعفن"، خطف "حاجونته" الغليظة المسندة جواره وهو يعض برطمه، ورددت في داخلي "الآن أذلف"..!، ودفعت بجسدي النحيل ركضاً صوب الشارع عندما طارت عصاه من يده لتلتصق بظهري ونسقط سوياً.. ثم أنهض لأواصل هربي تاركاً الحلوى، وبلورات السكر التي تتناثر فوق التراب والذي عدت اليه لاحقاً فوجدت جيوش النمل قد سبقتني إليه. ثلاث نساء و«رجل كفيف» ينتخبون ملكة جمال الصحراء! صورة بسيطة وسريعة تمثل جانباً من عيد الطفولة بأفراحه ومفارقاته..العيد الذي يأتي فيغمر الجميع بالبهجة والسرور وكل مظاهر الفرح عندما كانت الحياة بسيطة وخالية من تعقيدات التحضر، وعندما يأتي يحدث تغييراً لدى الكبير قبل الصغير ليس فقط بالملبس والمأكل، وإنما في نفوس البشر فيكون مختلفاً عن بقية أيام السنة.. فتاة تقضي فترة الحداد تنقذ ربعها من خسارة «الخرفان».. مظاهر العيد كان ايقاع العيد ومظاهره مختلفة من منطقة إلى أخرى، ومتقارباً في منطقة نجد، وإن كنا كلما ابتعدنا عن أجواء المدن إلى القرى والبوادي (محور موضوعنا) كانت مساحة الفرح أكثر رحابة، فهم متفقون تقريباً فيما يخص الاستعدادات المبكرة التي تسبق العيد بعدة أشهر في اللباس مثلاً، والطعام، ومستلزمات الزينة للنساء على وجه الخصوص، والمحصورة في الغالب بالكحل والعطور والحناء و"عود الديرمان" الذي يجلب من فروع بعض الاشجار الصحراوية بديلاً عن أحمر الشفايف، وتستغني البدوية عن "عجينة المشاط" للشعر والمكونه من أوراق السدر والريحان والهيل، حيث تكتفي أغلب البدويات بغسل شعورهن ب"أبوال" الابل.. ويبقى العيد في القرية أو البادية هو الأجمل، حيث تعطل كل الأعمال لبضعة أيام، وبعد الفراغ من صلاة العيد وتناول الوجبات الجماعية في الشوارع والساحات، وفي بيت الأكبر سناً بالنسبة للبادية ،وهو مما تيسر ولا يتجاوز في الغالب اللحم والرز "المكركم" يبدأ التواصل وزيارة كبار السن والمرضى، بعد ذلك تنطلق الاحتفالات والتعبير عن الفرح على مدى ثلاثة أيام متواصلة بالغناء والرقص والألعاب للكبار والصغار ومباريات الشعر، كما تنفرد القرى والبوادي بإقامة سباقات الخيل والابل والحمير وسباقات أخرى للرجال في الركض وفي "المطارحة"، كما تقام تحديات في فن الرماية للرجال عند ما يوضع "نيشان"، وهو في الغالب عظم كتف ماعز على مسافة لاتقل عن 200 متر، ويبدأ التحدي على من يصيبه منهم. رقصة الدحة اشتهر بها أهل الشمال ويسمح للنساء والفتيات حضور احتفالات وبرامج الرجال والمشاركة في التشجيع، وقد يحظى الفائز منهم بقبلة رأس من احدى قريباته أمام الحضور، وهو ما دعا أحدهم أن يخاطب إحداهن في يوم عيد: ياغزيل خوفي الله وحبيني حبة تفرق على السكر الجاوي انعشيني كان دينك على ديني وان جفيتيني ترى القلب شيماوي رقص الصبايا وتتفنن النساء في حفلة الرقص والغناء الذي يخترن له إحدى البيوت أو الخيام الكبيرة، ويقام على مدى الثلاثة أيام على فترتين صباحية ومسائية، وهو إن كان معزولاً في الغالب، إلاّ أن الرجال يحاولون التلصص عليهن من شقوق الجدران، أو الخيام والاستماع إلى ألوان الغناء والتصفيق، ويزداد شغفهم كلما زاد "ردح" أو "رزح" وقع أقدام النساء أثناء تأدية الرقص، والذي يشبهونه بوقع حوافر الخيول في ركضها عندما يسمع من مسافة بعيدة، ويعني عندهم الصحة وامتلاء الجسم وبروز تضاريس الجسد، وهو أحد معايير الجمال لديهم تماشياً مع القاعدة وفق ثقافتهم "الشحم يا مطاريس اللحم"، وفي هذه الايام قد يرفع النقد والكلفة عندما يمارس الكبار بعض مراهقتهم والذي دعا "عبد الله بن سبيل" إلى مداعبة صديقه في أحد أيام فرحهم: "مطوع" يا مال كشف المغطى تأخذ على رقي المنابر شروطي تشره على طفل وهو ما تغطى يلعب مع البزران بأم الخطوطي سباق الجميلات في هذا اليوم تدور منافسات خفية على مستوى النساء حول الفتيات الأجمل، وترشيحات لا تعلن في العادة لكنها تستنتج من خلال حوارات المجالس، وقد يتطور الأمر إلى الرجال أنفسهم عندما ينشأ خلاف على "أي البنات أجمل؟"، وهو ما وصل في أحد المضارب إلى التحدي بين جماعتين من نفس القبيلة قبل نحو 100 عام، ووصل العناد إلى مراهنة على ذبح خمسة خرفان تتحملها الجماعة الخاسرة، وحدد يوم العيد الثاني لإقامة العرض الراقص الذي تحكمة ثلاث نساء من الموثوق بهن، وسمح بمشاركة حكم رابع وهو "رجل كفيف" كان دوره محصوراً في سماع ورصد معيار الثقل الذي يستنتجه من مستوى إيقاع اقدام الراقصة، وهو ضرير تتركز حواسه بقوة السمع، وكان يركز عصاه في الأرض ويلامس طرفها الآخر باسنانه، وعندما عرف مقياس رصد الزلالزل بعد 50 عاماً اطلقوا عليه "رختر"، ويقال إن احد الطرفين عندما شعروا بالهزيمة استنجدوا بفتاة من جماعتهم كانت تقضي فترة الحداد على زوجها المتوفى منذ شهرين، وأرسلوا لها رجلاً عنده ملكة القدرة على الاقناع، وقال لها: "زوجك غفر الله له"..شبع موت، واليوم يومك يابنت فلان، ربعك في مأزق، والرجاجيل يبون يأكلون خرفاننا، وبعد قليل تفاجأت النساء بدخولها عليهن بكامل زينتها لتحسم الرهان وتسجل فوزاً ساحقاً. فتيات البادية يحتفلن بالعيد عام 1914 مشاعر خاصة مثل هذه الأجواء المفعمة بالفرح والسرور والتي لا تتكرر سوى يومين في السنة، أثارت مشاعر "بخوت المرية" يوماً من الأيام، والتي حرمت مشاركة أهلها وأقاربها فرحة العيد ولم تجد ما تعبّر فيه عن حرمانها غير الشعر: كن في قلبي لهب نار ربعٍ نازلين اشعلوها بالخلا والهبوب تلوفها ولَّ عودٍ لاش رحمه ولا قلبٍ يلين علّ ذودك في نحر قوم وانت تشوفها عيدوا بي بالخلا والفريق معيدين كل عذرا نقشت بالخضاب كفوفها مايقرب دارهم كود صنع الذاهبين كود حمرا عزمها من صفاة بلوفها عيد فائت أما الشاعر الكبير "صقر النصافي" والذي كان يقود قافلة تجارة في محاولة تمريرها في غفلة العيد أثناء فترة الحكم العثماني خوفاً من مصادرتها، فقد عزى النفس وحاول رفع معنويات ابنه "علي" الذي كان يرافقه عندما فاتهم أحد الأعياد قبل وصولهم، فقال لابنه: ياعلي خل العيد لأم الدناديش اللي تفرك كل يوم ٍجسدها تبغي تماري ناقضات العكاريش في كل ملفاح ٍ اتنقض جعدها العيد عيد الله ولو فات حتيش من حسبة أيام ٍ يمرك عددها نبي نعلمك المساري على الجيش تمشي ذلولك لين يفتر جهدها خابرك مانت بضاري ٍ للمطاريش نبيك تونس حلوها من نكدها ليلة على مسرى وليلة مغابيش وليلة يخلي نومها من رقدها وليلة على تمره وليلة على عيش وليلة نوكلك الشحم صيد يدها بين زمنين وما بين جيل "أم الدناديش" في زمن "بخوت المرية" و"صقر النصافي" وبعض جيل "دوت كم" في عصرنا الحاضر، مسافة تعادل تلك المسافة الزمنية بين الجيلين، هي مساحة البهجة والسرور وكيفية استغلال مناسبات الفرح التي افتقدناها.. لا ندعو مثلاً إلى حفل تُنتخب فيه ملكة جمال يستدعى فيه فزعة فتاة تقضي فترة الحداد لترجيح كفة الرهان بعد أن أصبح لدينا من الوعي الديني ما ينور طريقنا، لكننا سئمنا "الأفراح المبرمجة" التي إن اتت جاءت ملفوفة بطابع الرسمنة والكلفة. يسوؤنا كثيراً عندما نرى أحد أبنائنا لا يصحو إلا قبيل صلاة المغرب، ويتذكر أن اليوم يوم عيد يرشق وجهه ببضع قطرات من الماء يحمل جهاز "اللاب توب" ويتوجه إلى شلة الاستراحة. نساء يحتفلن بالعيد وهن بكامل زينتهن سباق الهجن أيام العيد يظهر معاني القوة والتحمل فتاتان بالزي الشعبي تنطلقان للتهنئة بالعيد ..وطفلان ينتظران العيدية