إن تقرير الحكم الشرعي المناسب حول شرعية نظرية أعمال السيادة من عدم شرعيتها يحتاج لعرض هذه المسألة على كبار فقهاء الشريعة في الدولة لإصدار فتوىً بها بعد شرح كافة أبعاد وجوانب هذه النظرية نص نظام ديوان المظالم الجديد في المادة (14) منه على أنه لا يجوز لمحاكم ديوان المظالم النظر في الدعاوى المتعلقة بأعمال السيادة . وهذا النص ورد أيضاً في نظام ديوان المظالم السابق . فعدم جواز نظر القضاء الإداري في الدعاوى المتعلقة بأعمال السيادة يعتبر قاعدة ً من قواعد القضاء الإداري الحديث التي أرساها مجلس الدولة الفرنسي واعتبرت فيما بعد أساساً من أسسه الملزمة . وهذا المبدأ وإن كان في ظاهره يخالف مبدأ المشروعية ويناقض حق الأفراد في اللجوء للقضاء ؛ إلا أنه لا يخفى أن استقرار الدولة وأمنها أعظم خطراً وأهمية ً من الالتزام بتطبيق القانون في كل الحالات ، وأنه ليس من المصلحة العليا للدولة أن تخضع مسائل أمنها الداخلي والخارجي وعلاقاتها مع الدول لما تخضع له الدعاوى القضائية من مخاصمات ومرافعات يترتب عليها من الضرر العام على استقرار الدولة أعظم مما يترتب عليها من تحقيق مصلحة ٍ فردية لآحاد الناس . وما من شك ٍ أن هذا السبب لوحده كاف ٍ لاعتبار نظرية أعمال السيادة من النظريات المعتبرة في الشريعة الإسلامية التي تقرر قواعدها العامة أن : " الضرر الخاص يحتمل في سبيل دفع الضرر العام " وأن " درء المفاسد مقدم ٌ على جلب المصالح " والقاعدة الكبرى الشهيرة في السياسة الشرعية " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة " . وقد تعرض بعض الباحثين لنظرية أعمال السيادة فاعتبرها مخالفة ً لأحكام الشريعة الإسلامية مستدلاً بأدلة ٍ هي أقرب إلى الشبهات منها للأدلة العلمية المعتبرة ؛ فمن بين ما استدل به لهذا الرأي أن حق التقاضي من الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية لكل أفراد الدولة ورعاياها من مسلمين وغيرهم ، وأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمه في بعض الوقائع بدفع ديات القتلى الذين قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم بصفته رئيس الدولة التزم بالتعويض للمتضرر بسبب خطأ قائد الجيش وأعمال الجيوش من صميم أعمال السيادة حسب النظرية الوضعية الحديثة . وهذه الاستشهادات مردودٌ عليها بأمرين : أولهما : أن ما فعله صلى الله عليه وسلم يعتبر قراراً سيادياً صادراً من رئيس الدولة دون التعرض لدعوى قضائية وهو أمرٌ يختلف عن محل البحث . وثانيهما : أن التعويض عن الضرر الحاصل بسبب عملٍ من أعمال السيادة يختلف عن التعرض للقرار السيادي بالإلغاء فالتعويض أهون بكثير من الإلغاء ، وهذا ما حدا ببعض فقهاء القانون إلى المطالبة بتمكين المتضرر من أعمال السيادة من المطالبة بالتعويض قضاءً للتخفيف من ضرر مبدأ أعمال السيادة . ثم إن تقرير الحكم الشرعي المناسب حول شرعية نظرية أعمال السيادة من عدم شرعيتها يحتاج لعرض هذه المسألة على كبار فقهاء الشريعة في الدولة لإصدار فتوىً بها بعد شرح كافة أبعاد وجوانب هذه النظرية على الفقهاء ؛ وعلى هذا فلا حجية لما يبديه بعض الباحثين من آراء واجتهادات فردية حول هذه المسألة المتعلقة بأمر عام من أمور الأمة . وفيما يتعلق بأعمال السيادة فقد اتفق فقهاء القانون والقضاء الإداري على أن الأعمال المتعلقة بسلامة الدولة وأمنها الداخلي تعتبر من صلب أعمال السيادة التي يُمنع القضاء من مناقشتها وطرحها في دعاوى وخصومات قضائية تلوكها الألسن ، وتتحدث بها وسائل الإعلام ويتعرض لها غوغاء الناس بالتعليق والمناقشة مما يترتب عليه من الأضرار الجسيمة بأمن الدولة واستقرارها وسلامة كيانها العام الشيء الكثير . وإذا كان من المتفق عليه أن حقيقة أعمال السيادة تتمثل في كافة الأعمال والإجراءات التي تتخذها السلطة التنفيذية بصفتها حكومة وليس بصفتها إدارة ، وأن هذه الأعمال هي التي يعهد بها الملك أو رئيس الدولة إلى جهة ما يخولها بموجبها كافة الصلاحيات للقيام بعمل يهدف إلى الحفاظ على أمن واستقرار الدولة ؛ فإنه يتضح بذلك أن من أولى ما يدخل تحت هذا التصنيف والوصف الأعمال التي تباشرها إدارة المباحث العامة بإشراف مباشر من سمو وزير الداخلية وسمو نائبه وسمو مساعده الذين عهد إليهم الملك بهذه المهمة الجليلة . مما يعني أن استمرار المحاكم الإدارية في ديوان المظالم في نظر الدعاوى التي تقام ضد إدارة المباحث للطعن على إجراءاتها وقراراتها الداخلة في صلب اختصاصها أن ذلك يعد ُ مخالفة صريحة لنص المادة الرابعة عشرة من نظام ديوان المظالم وخروجاً على المبدأ المستقر في منع القضاء الإداري من نظر الدعاوى المتعلقة بأعمال السيادة . وإذا كانت مسألة أمن واستقرار الدولة تعتبر من المسائل الحيوية والحساسة التي لا يصح لأي كان أن يعرّضها للزعزعة في كل الأحوال ؛ فإن هذه المسألة تتعاظم خطراً في ظل الظروف التي يشهدها العالم أجمع بصفة عامة وتشهدها المملكة بصفة خاصة في كثرة ما يعترض أمنها واستقرارها من أخطار لم تكن في السابق بذات التعقيد والتشابك والخطر ، كما أن من الدواعي المهمة التي ينبغي أن يكون لها اعتبارها في تقرير هذه المسألة كثرة أعداد القضاة المعينين حديثاً في ديوان المظالم من الخريجين الجدد الذين ليس لهم خبرة ودراية وبُعد نظر القضاة القدامى الذين عركتهم التجارب القضائية فقد يحمل الحماس أحدهم على إدارة النزاع في قضية من القضايا الشائكة بشيء من العجلة وقلة التروي وعدم إدراك أبعاد مثل هذه المواضيع . وقبل الختام أؤكد على مسألتين هما : أولاً : أنه وإن منع القضاء الإداري من الخوض في أعمال السيادة إلا أن ذلك لا يعني سلب المتضرر والمعترض عليها حقه في اللجوء لجهة تنظر في اعتراضه فنحن في دولة – بفضل الله – تحكم بالشريعة ويفتح حكامها أبوابها لكل ذي شكوى ابتداء بأبواب سمو وزير الداخلية وسمو نائبه وسمو مساعده المفتوحة يومياً، ووصولاً لباب خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده – أيدهم الله - . ثانياً : أن من الأسس المقررة في الشريعة الإسلامية أن ولي الأمر المسلم هو المرجع الأول لكافة الولايات الشرعية وأهمها القضاء وبذلك يعتبر هو القاضي الأول في الدولة المسلمة ، وما سائر القضاة إلا أعوانٌ له مستمدين ولايتهم منه ، فإذا منعهم من نظر اختصاص معين وفتح بابه هو لتلقي الشكايات في هذا الاختصاص فإن حق التقاضي والتظلم ما يزال قائماً وفي أعلى مراتبه ودرجاته وأكثرها فعالية خاصة في ظل حاكم مثل خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – المشهود له بكراهية الظلم ورفعه عن المظلوم كائناً من كان ظالمه . وما توفيقي إلا بالله هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً