... وهكذا رحل شاغل الناس، وفارس الوطنية، ورمز الإبداع الأدبي والشعري والتجديد الفكري، والمحب للحرية والإنسانية. وغازي القصيبي .. أحد أهم رجالات الدولة الذين خدموا دينهم ومليكهم ووطنهم بكل إخلاص وتفان مما جعله يحظى بحب واحترام مليكه ووطنه. وقد شغل رحمه الله عدداً من المناصب المهمة في الدولة فكان وزيراً للصناعة، والصحة، والماء والكهرباء، وأخيراً وزيراً لوزارة العمل، بالإضافة إلى مناصبه الدبلوماسية سفيراً لبلاده في البحرين وفي بريطانيا، كما حصل على عدد من الأوسمة الرفيعة من عدد من الدول أبرزها وسام الملك عبدالعزيز من المملكة العربية السعودية. وبالرغم من أنه لم ألتق بمعالي الدكتور غازي القصيبي إلا مرتين في حياتي إلا أنني شعرت بما يتمتع به من كاريزما آسرة، وهي الكاريزما التي يعرفها الكثيرون من اصدقائه ومعارفه، وهي كاريزما تتميز بالبساطة وروح الدعابة والإنسانية.. ولعل من أكثر الفترات التي جعلت القصيبي علماً متوهجاً في سماء الوطنية هي الفترة العصيبة التي مرت بها دول الخليج، إبان غزو العراق لدولة الكويت عام 1990م وحرب التحرير التي عرفت بحرب الخليج الثانية عام 1991م، وكانت له قصائد رائعة لعل من أهمها قصيدته المغناة (أجل نحن الحجاز ونحن نجد). والإبداع يتألق في كل ما نشره القصيبي من أدب وشعر وفكر، سواء في دواوينه المتعددة ومنها أنت الرياض، صوت من الخليج، وأشعار من جزائر اللؤلؤ..الخ، وفيما أنتجه من فكر في حياة في الإدارة، وسيرة شعرية، وعن هذا وذاك، والتنمية، وثورة في السنة النبوية، والغزو الثقافي وغيرها، بالإضافة إلى رواياته ومنها شقة الحرية، والعصفورية، سبعة، سعادة السفير، دنسكو، سلمى، أبو شلاخ البرمائي، والجنية وهي من الروايات التي قرأتها وأعجبت بها كثيراً. والجنية أشبه ما تكون ببحث علمي مدعم بكثير من المراجع العلمية والأدبية. ولم يطلق القصيبي مسمى الرواية على الجنية، بل اكتفى بوصفها بالحكاية، وتشبه هذه الحكاية في اعتقادي حكايات ألف ليلة وليلة، حيث يقع بطل الحكاية في حب امرأة من الجن، ويدخل معها إلى عالم الجن ليكتشف بنفسه هذا العالم المدهش والمجهول. ومن أكثر القصائد التي أحببتها للمبدع غازي القصيبي قصيدة "أنتِ الرياض"، الرياض التي أحبها ودفن فيها، يقول الشاعر: أحبك حب الرياض أحبك حب عيون الرياض وحين تغيب الرياض أحدق في ناظريك قليلاً وفاتنه أنت مثل الرياض ترق ملامحها في المطر وقاسية أنت مثل الرياض تعذب عشاقها بالضجر ونائية أنت مثل الرياض يطول إليها .. إليك .. السفر وفي آخر الليل يأتي المخاض وأحلم أنا امتزجنا فصرت الرياض وصرت الرياض وصرنا الرياض وفي آخر قصيدة للفقيد وهو على فراش المرض يتفجر إبداعه من خلال تفاعله مع المرض الوبيل فيقول: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل ثم يقول في آخر القصيدة: ياليتني مازلت طفلا وفي عيني مازال جمال النخيل أرتل القرآن يا ليتني مازلت في الإهاب النحيل على جبين الحب في مخدعي يؤذني في الليل صوت الخليل هديل بنتي مثل نور الضحى أسمع فيها هدهدات العويل تقول يا بابا تريث فلا أقول إلا سامحيني .. هديل رحم الله رمز الوطنية والإبداع والإنسانية .. رحم الله معالي الفارس النبيل الدكتور غازي القصيبي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأقاربه وأصدقاءه وكل من أحبه الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون)