واقع مُر: فَترزّزوا إن لم تَكونُوا مِثلَهُم إنّ التَّرزُزَ يا أنامُ فَلَاحُ في مجتمَعاتِ العالمِ الثالِث؛ تتقنُ بعضَ الطيور فن "الترزز"، وفن "تنفيش" الريش، فتطيرُ بأرزاقِها، ويبقَى ذلك البسيط يضحَك مستمتِعاً بخيبتِه! في الكويت مثلا؛ تَرزز في "الديوانيات" صُبحاً وعشياً، وتَحدث عن معركة "الصريف" و"اليهرا" و"الرقة"، وستجد لك مقعداً في مجلس الأمة حين يتم حلُّه مجدداً، صَدِّقني.. سيكون ذلكَ قريباً جداً، إن لم يكن بعدَ شهرٍ من تاريخه!.. في الإمارات؛ اكتب شعراً شعبياً، تغنَّى في سماحَةِ هذا، وجودِ ذاك، وستكون مليونيراً، صدقني لا يُطلَب منك هناك شيء أكثر من ذلك لتكون مليونيراً!.. أما في السعودية؛ فترزز بكل شيء، بإهداء ملكة جمال النوق أو الخرفان ..لا فرق، رقم مميز للوحة سيارة أو للجوال.. لا فرق، وليمة من "عشر طعش صحن رز" أو بوفيه "مسدوح" لا فرق، واعلم بعد هذه الجهود الترززية أنك قد لا تنجح، لا لأنَّ الترزز سلوكٌ مذموم، بل لأن الترزز المباشر أصبح "دقة قديمة"، فالمترززون في ديارنا كثر، والوطيس حامٍ، والمنافسة تستعر.. حتى باتَ الترزز يتطلَّب احترافية خاصة ومهنية عالية لا يتقنها إلا من يحمل في جيناته جيناً ترززياً موروثاً. فيما مضى، كنتُ أتخيل أن مشاكل الكثير من البسطاء سَتُحل لو كانت هناك دورة تدريبية اسمها (العادات السبع لأكثر الناس ترززاً) على وزن دورة ستيفن كوفي الشهيرة (العادات السبع لأكثر الناس إنتاجية)، على أن تختلف في محتواها وفقاً لاختلافِ الفئات المستهدفة، فالدورة التي تُوجَّه للطلبة ستُعلِّمهم كيفية الترزز للحصول على أعلى قدر من الدرجات بأقل جهد من المذاكرة. أما الدورة التي ستُعنَى بغير الطلبة، فستهتم بتعليمهم سبع عادات ترززية للحصول على مقعد في التأمينات الاجتماعية، منحة أرض، وظيفة شريفة، سرير مستشفى وأمور كثيرة أخرى.. وبتُّ أُمعِنُ في الخيال... ماذا لو نادينا (المترزز الفلاني الشهير) ليكُن هو المدرِّب في تلك الدورة؟ إلا أني صُدِمتُ هنا، فآثرت قتلَ خيالي في مهدِه، فليسَ للبسطاء سوى ولادة الأحلام وقتلِها! فببسَاطة لو ناديناه ليكون مُدَرِّباً، سيترزز لمن هم أكبر منه منصباً وشأناً، وسيجعل دوراتِه حصراً للشخصيات الهامة أو ل ( (VIP) كما يترزز ويقول هوَ دائماً، وقد يسمح بين حينٍ وآخر بإلحاقِ شخصٍ أو شخصين من البُسطَاء كنوعٍ من الترزز ب"الطيبة"، والله أعلمُ بسرائرِهم وما يكتُمون! **** وعليه، أدركت أنه ليس لنا من حل سوى الحل المصري، وهو: (معلهش يا زهر!) ففي مصر؛ يعيش البسيط، يعمل البسيط، يدفع البسيط كامل أجرته، لصالحِ قومٍ آخرين.. يقال عنهم "مترززون".. ثم يعود البسيط لا ليبكي بل ليؤلف نكتة من وحي معاناته، ثم يجمع النكات مع بعضها البعض فيؤلف نصاً كوميدياً، فيسرقُه مخرج له "رزة" معتبرة، ويخرجُه كمسرحية تمثل في مسرح "شارع الهرم"، ويدفع التذاكر بسيطٌ آخر، كان يبحثُ عن تسليةٍ رخيصة بعد أن أرهق كاهلهُ ظلمُ المترززين.. ولهذا لا تنتهي مسلسلات وأفلام ومسرحيات الكوميديا في مصر! ليس لأن لهم دماً أخف من دمائِنا، وإنما لأنَّ لديهم مترززين أثقل عياراً، لم يدعوا لهم مجالاً إلا لتصديرِ الضحك أو لشرائه!.. ولأجلِ ذلك، خرجَ الأديب المصري الراحل عبد الوهاب مطاوِع - رحمه الله - بفلسفته الرائعة التي تقول: (الابتسام والضحك هما التعبير الأبلغ عن الشعور بالمرارة من الدموع الساخنة، وهو ما يسمى بالتسامح مع الحياة، كأنما يقول لها الإنسان :: معلهش يا زهر ! فلا بد أن يأتي يوم أجد فيه السعادة والكرامة والأمان! فإن لم يجىء هذا اليوم فيكفي الإنسان أنه قد عاشَ متعلقاً بالأملِ فيه، صامداً في وجهِ الرياح، باسماً لألمهِ الشخصيّ ولآلامِ الحياة، ناظراً إلى الحياة نظرَةَ فيلسُوف يرَى الدنيا ألعوبة ويرى كل شيءٍ صغيراً وإن بدا للآخرينَ كبيراً).. يعني؛ إذا لم تقبَل في العسكرية، وكانَ تَقديرُك عالياً، وقُدراتُكَ أعلى، فابتسم.. فإنما أرادوا أن يرفعوا قَدرَك، حتى لا "يَطيشَ" قِدرَك، وتقلَّ قُدرَتك جرَّاء التدريبات العسكرية. وإن كنتَ خريج ثانوي "طبيعي"، ولم تُقبَل إلا في كلية المعلمين - لغة عربية، فابتسم.. فإنما أرادوا إعلاء لغةَ القرآن، تطبيقاً لتوصياتِ "حافظ إبراهيم" بعدَ طولِ ترددٍ وانتظار. أما إن كنتَ قد حجزتَ على رحلةٍ دولية مع "العيال" وأم "العيال"، وفوجئتَ بأنَّ مقعدكَ قد طارَ منك، قبلَ أن تطيرَ أنتَ معه، وأعطوكَ بدلاً تذكرةً مجانيةً إضافية، فابتسم.. واعلم أنما أرادوا أن يُرَسِّخوا في الأذهان قاعدة مُحاسَبِيَّة هامَّة وهيَ "الإيرادات غير المتوقعة".. وأيضاً؛ إن كنتَ جامعياً متفوقاً وتمَّ تجاهلك بعد المقابلة لأجلِ حضرةِ أحدهم..فابتسم؛ وإن كنت موظفاً وطارت ترقيتُك لآخرَ أصغرَ منك اعتادَ أن يستشيرك دائماً.. فابتسم؛ وإن كنتَ أشياءَ أخرى تشبهُ ذلك.. فابتسم أيضاً.. أو ألِّف نكتة..أو فلتعمَل بما اقترحَ أحدُ القراء كحلٍ للبسطاء -في ردهِ على مقالي السابق الذي حمل نفس عنوان هذا المقال- : "كل رز ونام بس" فليس لي ولكَ خياراتٌ أخرى .. صدقني.. بالمناسبة؛ هل هناكَ فعلاً علاقة بين "الرِز" و"الترزز" في السعودية؟؟