الوقوف على الأطلال سلوك سائد في ثقافة الصحراء تجلى في الشعر العربي الفصيح قديماً حتى تشكل مفتاحاً للقصيدة في مرحلة من المراحل، فالشاعر العربي رقيق المشاعر لا يستطيع مقاومة داعي العاطفة الجياشة الذي يهيجه الفراق، ويبعث شوقه رؤية الديار الخالية؛ ولأن الشعر النبطي امتداد للشعر العربي القديم في نهجه واتجاهاته نرى الشاعر النبطي يحاكي أسلافه فيقف على الأطلال باكياً ويمزج دموعه بأشعاره الحزينة ، ويشير الدكتور جريدي المنصوري (النار في الشعر وطقوس الثقافة ص 9093) إلى جانب فلسفي في شعر الأطلال يتجه معه الشعراء إلى تأمل نهايات الأشياء فإن النار تتمظهر غالباً في حالتين ترتبطان بالفناء وهما الرماد والأثافي فبعض الشعراء يذكر موقد النار ويفتح الخطاب على المظاهر المحيطة به وما أصاب معالمها من تغير وتبدل على نحو ما جاء عند حسان بن ثابت: أشاقك من أم الوليد ربوع بلاقع ما من أهلهن جميع عفاهن صيفي الرياح وواكف من الدلو رجاف السحاب هموع فلم يبق إلا موقد النار حوله رواكد أمثال الحمام وقوع و يتكرر مشهد الرماد والأثافي عند الشاعر النبطي سليطين العنزي رغم المسافة الزمنية التي تمتد إلى أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهو ما يؤكد العمق التاريخي لثقافة الصحراء حيث قال: يا دار وين اللي نزل بك ولا عاد هذا مطب وجارهم والهوادي بس الثلاث مراكيات وقعّاد ما بينهن تذري ذواري السمادي1 وهو ما يؤكده الشاعر حامد بن سعدنة الشراري أيضاً بقوله: يا ليتني عن جية الرجم مقصور من جيته ماشفت غير الزهادي على الزوامل كرّبوا كل مظهور ولا قابل الديران غير الهوادي أقفى ظعنهم يحتدي كل طابور وإلا كما سيلٍ قضب بطن وادي فوجود الأثافي في المكان هو دليل على وجود الحياة فيه كما هي دليل على موت المكان وخلوه من الوجود الإنساني في نفس الوقت، وفيما الشاعر بمشاهدته للأثافي يستحضر الحزن والبكاء على رحيل الأحباب فإنه يحنّ للمكان ويوشك على احتضانه، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الأثافي تتشكل ذاكرة للمكان في صحراء خالية من العمران . الأثافي قديماً وحديثاً: يضرب المثل العربي ب ( ثالثة الأثافي) ، ويقال أيضاً : (هو إحدى الأثافي) فما الأثافي؟! الأثافي: جمع أُثفيِّة، وهي الحجر أو الدعامة التي توضع تحت القِدر ليستوي. قال الجنيدل (معجم التراث ج3/85): وعند الحضر غالبا تكون مبنية من طين قوي وتكون على هيئة هرم مثلث رأسه مدحرج ويقال لها أيضاً مناصب الواحدة منصبة وفي المثل الشعبي :(القدر ما ينصب إلا على ثلاث)، وهذه التسميات أثفية ، منصبة، ذات أصل فصيح ويقال لها أيضاً هوادي جمع هادية، وأشار إلى أن بعض العامة يقلبون فاءه ثاء فيقولون أثاثي. سر العدد في الأثافي: لقد عرف الإنسان منذ أن صنع القدور الآجرية ومن ثم المعدنية ، أن أُثفيتين لا تكفيان لاستواء القدر، وأن أربعة تزيد عن الحاجة، فالأثافي الثلاث كافية تماماً لكي يعتدل القدر فوق النار فلا ينقلب، وتنبىء اللقى الأثرية في أقاصي الشرق ، أن الأثافي كانت ثلاثاً في الصين شأنها في الجزيرة العربية ، فمنذ ما يزيد عن 3000 عام، وُجد الإناء البخاري مثلث القاعدة في حوض (النهرالأصفر) ، وعُرف آنذاك باسم (لي) ، وكانت قواعده الثلاث مفرغة لتعريض مساحة واسعة منه للنار فضلاً عن حفظ القدر منتصباً (بهجة المعرفة : مسيرة الحضارة مجلد1 ص82) ولا شك أن إدراك الإنسان القديم في مختلف أصقاع الأرض . كفاية الأثافي الثلاث للقدر الواحدة بما في ذلك توزيع هذه الأثافي على رؤوس مثلث متساوي الأضلاع تقريباً . كان إدراكا رياضيّا وهندسيّا أوّليّا ، اكتسبه بالتجربة. الأثاثي الصورة والرمز: وجد الشعراء في الأثافي الثلاث صوراً متعددة كصورة الحمام الوقوع كما في بيت حسان بن ثابت السابق، أو صورة العطف والشعور بالأمومة نحو الرماد الذي اتخذ صورة (البو) في قول ابن الدمينة: فلم يبق من آياتها غير مسجد ومستوقد كالبو بين العواطف ومثله قول الراعي: وأبقى السيل والأرواح منها ثلاثاً في منازلها ظؤارا أنخن وهن أغفال عليها فقد ترك الصلاء بهن نارا أو قول كثير في صورة مشابهة : سفع الخدود كأنهن وقد مضت حجج عوائد بينهم سقيم والحقيقة أن صورة الأثافي في الشعر اعتمدت على دلالة اللون ودلالة العدد ودلالة الشكل ودلالة الحال؛ فالأثافي لونها أسود، وعددها ثلاث، وشكلها جاثمة مجتمعة غالباً، كما هي صامتة وساكنة دائماً ،ولذا فهي متعرضة للإهانة حيث يذروها الرماد والسماد قال الشاعر النبطي: ألا يا ثلاثٍ ساكنات بدمنة ضربت الهبا بينهن وطار ويشير محمد الأصقه صاحب (قاموس البادية) إلى أن منازل البادية تمحاها الرياح عدا الأثافي ومنارة القهوة ووجارها، ونضيف إلى ذلك الأوتاد والنوى والمراح يقول سعد المطرفي البلوي (الفهيد 8/90): جيت المراح وشفت به مشعة الراس وذكّر علي جروحي اللي مضني شفت الثلاث اللي على الدار جلاس أبا الخبر منهن ولا خبرني ومثلما تعددت صور الأثافي في الشعر العربي فقد شكلت رمزاً للتقليل من شأن الآخرين وتأمل قول لشاعر عيسى بن جدعان العيساوي : خطوى الولد ما رافق الهجن بأوعاد ولا ذاق لذ الميركة والشدادي يتالي هوى نفسه ويأكل من الزاد عند الحليلة رابعٍ للهوادي2 فالأثافي ثلاث وكل مستكين خامل لا يغادر المكان للاكتساب وإدراك الأمجاد هو أشبه ما يكون بهذه الأثاثي في الجمود والسكون والرضا بالذل والإهانة، وهذا الشاعر دوخي يصف حالة السوء التي وصل إليها لدرجة إحضاره الأثافي للنساء: غديت عقب مرافق الجيش حشاش هقوه أبيع التفق لي بشوم وآتي لزينات المفاتيل بفراش وأثافي من عاليات الرجوم ولكن الأثاثي أو الهوادي عند انعدامها في الظروف الاستثنائية تتحول بطريقة عجيبة إلى رمز للكرم والكرماء حيث تذبح الإبل لأجل أن تتخذ رؤوسها أثافياً تطبخ عليها وليمة الضيوف في قصص مشهورة يتداولها الرواة حول بعض الشخصيات. --------------------- 1 قطوف الأزهار:ابن عبار 225 2 من آدابنا الشعبية:الفهيد 1:232