عندما يكون هم المواطن هو كيف يملأ بطون من يعولهم فنحن بحق نواجه مشكلة حقيقة. وأنا بصراحة ضد أن ندس رؤوسنا في التراب ونصم آذاننا عن صرخات البطون الجائعة متظاهرين أن المجتمع كله بخير وخال من الجائعين، أو ممن أصبح همه توفير لقمة العيش فضلاً عن ايجاد المسكن والملبس وخلافه من أساسيات الحياة، فكيف ننتظر من هؤلاء أن يرتقوا بأنفسهم أو بمن حولهم، وأنا أعي تماماً أن الأوائل أبدعوا وأنتجوا الدرر، وكانوا يربطون بطونهم من الجوع، ولكن ذلك كان في زمن علو الهمة، أما اليوم فكيف بالنشء أن يقف على قدميه ويستغنى عن غيره، إذا كان كل همه ينحصر في كم وصل كيس الرز؟ وبكم السكر؟ إن عدم معرفتنا ووقوفنا على المشكلة لا يعني عدم وجودها، فأنا وقفت وعايشت تلك الأسر فجدتي، رحمها الله، كانت محسنة ورحيمة وقد أفاض الله عليها الخير فمنذ صغري وبيتها يعج بالفقراء الذين لا أقول يأتون لسد حاجاتهم بل يعيشون معنا، فقد كانت، رحمها الله، متواضعة لدرجة أنها تعتبرهن صديقات لها فعرفنا قصصهن وكأننا نعيش بينهن، وحتى بعد وفاتها أصبحت يترددن على والدتي ولم يتغير في أحوالهن شيء. نحن لا ننتظر ولا نطلب من هؤلاء أن يكونوا أثرياء، وان كنا نتمنى لهم ذلك، ولكن نريد أن يصلوا للكفاف، وللاستغناء عن الناس، وهنا بيت القصيد وبالطبع بصرف النظر عمن يعاني داء التسول، فهذه حالات شاذة لا يقاس عليها، نريد أن نصل بتلك الأسر لدرجة الكفاف وما فوق قليلاً، وهذا لن يتأتى إلا بتوفير التعليم الجيد للنشء، وللأسف، إما بسبب سوء الظروف المعيشية وإما لقلة الوعي، نجد كثيرا من أبناء تلك الأسر يتعثر في تعليمه، وبالكاد ينجح أحدهم!! لماذا؟ هل لأن التعليم عندنا يحتاج لمدرس خصوصي لكل مادة لضعف كفاءة بعض المعلمين، وأولئك لا يقدرون على جلب مدرس لكل مادة! أو للكثاقة الطلابية في الفصل الواحد! أم لأن ثقافة تلك الأسر تصم من يجتهد بأوصاف سلبية منها (الدافور) فيفضل الكسل والاهمال على تلك الأوصاف! أم لأن الوضع العام لتلك الأسر لا يشجع على التعليم لكثرة الضيوف وصغر المنزل، فلا يجد وقتاً للمذاكرة! أم لأن القدوة كالأب غير متعلم! أو ربما كان لعدم التعرف إلى الأمثال المعاصرة التي ارتفعت بالعلم وشرفت به في تلك البيئات حتى ان احداهن شكت لي يوماً ابنها الذي يريد أن يصبح شيخاً ولا يريد الدراسة محتجاً بأن الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين لم يدرسوا في المدارس النظامية!! ولم يع أنهم رحمهم الله استقوا من شتى بحور العلم إرادة وجهداً وتعلماً وصبراً. نحن بحق بحاجة ماسة إلى دراسات ميدانية مكثفة لحصر أسباب تعثر التعليم في البيئات الفقيرة فلا ريب أن هناك علاقة طردية بين الفقر والأمية وبالتأكيد سينشئ بيننا جيل يعاني الأمية الحضارية. ومما لا شك فيه ان المساهمة في رفع المستوى التعليمي للفرد يسهم في رفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي للمجتمع بأسره ويشير الباحثين ان التعليم يمكن ان يؤدي وظيفته في التنمية حيث يساعد على اكتشاف وتنمية الأفراد ويهيئ سبل التفكير الموضوعي ويزيد قدرتهم على الخلق والابتكار كما بين ذلك تقريراً للأمم المتحدة. كم ينتابني العجب وتستدرني الشفقة والعطف على أمهات منذ وعيت على الدنيا قضين جل أعمارهن تكسوهن الحاجة ويرى في أعينهن الفقر؛ لأن الأبناء لم يتعلموا أو يعملوا. وأتساءل حتى مع مرور تلك السنين ألم يستغنين؟ وأبوح لنفسي بسؤال أين أبنائهن؟ ألم يقف أحدهم على قدميه أم مازالوا عالة على تلك الأم بل ان حاجتهن اتسعت بكبر الأبناء وازدياد متطلباتهم!! ويصدمني الواقع حين أعلم ان أبناءهم قد تعثروا في دراستهم، ولم يكملوا تعليمهم وهم في انتظار تلك المسكينة بعد طوافها على بيوت بعض المحسنين لتدس في يد أحدهم 50 أو 100 ريال ليقضوا بها حوائجهم. وقد يكون لها اثنان أو ثلاثة أو أربعة من الأبناء لم يقف أحد منهم على قدميه فهل الفقر وراثة والغنى وراثة؟ أم أن فقراء ما قبل 50 سنة بعضهم أصبحوا من أغنياء هذا الزمن، وأن فقير هذا الزمن صعب أن يصبح غنيا بل قل أن يستغني، وأن غني هذا الزمن مهدد بالفقر في ظل الأزمة المالية وتخبط الأسهم. هل أصبت بالاحباط لكثرة الصور السلبية التي شاهدتها والقصص التي عايشتها وحكمت بهذا الشكل؟. وأعود فأقول أن الرزق بيد الله ويحتاج إلى سعي ومن سبل السعي الانخراط في التعليم بجميع مراحله حيث انه متوقع لكل من يحصل عليه أن يصبح مطلوباً أكثر في سوق العمل وتزداد قدراته الاقتصادية وحتى لو لم يجد وظيفة يستطيع ان يكون عمله الخاص به. يقول الشاعر: العلم يرفع بيوتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف وأخيراً هذا بعض ما سمعت من أقوالهن: أم فهد: «يقول ولدي لا تكلميني في الدراسة» وهو الآن يجلس في بيتهم والأب متوفى. أم راشد «رويشد دخل الجامعة ترم ولا كمله يقول صعب مقدر أكمل» وللعلم دخل للجامعة بواسطة أحد المحسنين فمعدله جداً متدن والأب متوفى. أم عبدالله في الثمانين مازالت تصرف على أبنائها «عيالي ما يشتغلون ولا درسوا» لها أربعة أبناء وثلاث بنات ولا يعمل منهم أحد. والنماذج التي أعرفها جيداً كما أعرف أهلي كثيرة جداً!