الثنائيات في الأعمال الفنية ظاهرة ملفتة، وهي إذا تأكدت في حالات، فلا تعني أن غياب الثنائي ذبول للإبداع أو المبدع أداء أو إنتاج، ولكن ربما تعني اختفاء تلك المرحلة المميزة التي ارتبطت بعطاءات ثنائية كانت سمة إبداعية ولوناً إبداعياً مختلفاً، ونجاحات لا يمكن تكرارها في مراحل الغياب. وهي ظاهرة تغري بمعاودة اكتشاف تلك الثنائيات التي لم يكن لإحداها منفردا أن يؤلف ذلك المزج المدهش بين قدرات ظلت تنبعث من قمقم المخزون الهائل المتجدد. التجربة الثنائية تفرضها شروط كثيرة، منها الانسجام بين طاقات مبدعين، أو محاولة تحقيق فكرة راودت مبدعين. كما أن كلاهما يدرك الأبعاد التي يمدها كل منهما للآخر. والطاقة الزاخرة التي تفقد حرارتها وتوهجها عندما تنفصم عرى الثنائي توقفت عند هذا المعنى عند تأمل ظاهرة فيروز – الرحابنة. تلك الظاهرة التي وإن فقدنا حضورها اليوم، فهي حاضرة في الوجدان بقدر ذلك بقاء وانهيال وتدفق ذلك الشلال من الأعمال الخالدة التي خلفتها تلك المرحلة. استدعتني هذه الظاهرة أيضا لذلك السؤال المتجدد أيهما أحق بالإعجاب والتقدير الرحبانيان، عاصي ومنصور أم فيروز. الكلمة واللحن أم الأداء. ولم أجد أن هذا السؤال سوى نوع من أسئلة لا مكان لها في تلك الثنائيات المبدعة. فأول شروط ظاهرة من هذا النوع، الاعتراف بأن تلك الثنائيات هي تلازم إبداع شرطي، بفقده يفقد كل منهما جزءاً من قدرته في توظيف مواهبه. كلاهما جزء من تجربة إبداعية، لا يمكن إنتاجها بذات الجودة والتأثير إذا فقدت ذلك المزيج الثنائي. الرحبانيان اكتشفا في فيروز تلك المقدرة الهائلة على إحالة الكلمة إلى عالم زاخر بالأحاسيس والأداء المتفوق على ذاته، الذي يجعل الكلمات تتراقص في تناغم فريد ينطلق من حنجرة فيروز ليعانق ذلك اللحن المدهش، أما فيروز فقد تراجعت قدراتها عندما فقدت هذا الحضور الثنائي الذي أوصلها لقمة مجدها. التجربة الثنائية تفرضها شروط كثيرة، منها الانسجام بين طاقات مبدعين، أو محاولة تحقيق فكرة راودت مبدعين. كما أن كلاهما يدرك الأبعاد التي يمدها كل منهما للآخر، والطاقة الزاخرة التي تفقد حرارتها وتوهجها عندما تنفصم عرى الثنائي. هناك حالة تمازج نادرة، وفهم عميق ومشترك، واستيعاب واضح لطاقة كلاهما، وقدرة مذهلة على توظيف مواهب كلاهما إلى درجة الارتقاء الذي يسجل حضورا لا يمكن استعادته بغياب شرط الثنائي. ولذا كثيرا ما نلاحظ أن التجربة لا تتكرر عند ذات الأشخاص في حال انفصالهما أو بذات الدرجة من النجاح أو التألق. نقل الرحابنة الأغنية العربية من أغنية تفجع عشقي إلى فضاء زاخر بالحياة. وما قدماه من أعمال تلامس شغف الإنسان العربي بأرضه وحلمه عطاء وأملا وتألقا عبر تنوع رائع وهائل في الرؤى والصور والأفكار، ولم يأت بعده ما يجاريه تفوقا أو إبداعا أو حضورا. غنت فيروز من خلال أعمال الرحابنة للشام وفلسطين والقدس ولبنان روائع ستظل من أكثر الأعمال قيمة وأهمية وجمالا إلى درجة يمكن القول معها إنها مزجت أفكارا وصورا وكلمات والحاناً عبقرية، وأداءً لا نظير له يجسد تلك الروائع إحساسا وحضورا. لقد كانت مرحلة ثنائي ( الرحابنة - فيروز )، إلا أنها أيضا مرحلة الحلم العربي. ولذا هناك طرف غائب اليوم في مشهد الإبداع وهو الحلم العربي. ولذا يمكن إعادة صياغة فهم مرحلة باعتبار أن تلك الثنائيات كانت أيضا تعانق تلك الآمال والأحلام الكبرى. كان ثمة دافع كبير وأمل كبير وشعور اكبر بحلم يستبد بذلك المبدع فيتدفق حضورا وعطاء. هل يمكن القول إن هناك جزءاً من ثنائية أخرى غائبة، يمكن وصفها بثنائية (المبدع – الحلم)؟ وهذا موضوع يتطلب التأمل والقراءة، فلم اعثر حتى اليوم على محاولة تقترب منه أو تلتفت إليه عند دراسة حضور القامات المبدعة أيا كانت انشغالاتها. هناك ثنائيات تألقت ليس فقط في مستوى الأغنية العربية كلمة ولحنا وأداء، ولكن في مجالات فنية وإبداعية أخرى. هل نتذكر الكاتب والشاعر محمد الماغوط والفنان دريد لحام. هذا الثنائي قدم أعمالا لا يمكن تجاوز فكرة الثنائي دون المرور عليها. من ضيعة تشرين إلى كاسك يا وطن إلى فيلم الحدود والتقرير وغيرها من الأعمال التي سجلت في مرحلتها حضورا مهما. لماذا عندما انفصل هذا الثنائي، وحتى قبل رحيل الماغوط بسنوات، تحول فنان كبير مثل دريد لحام إلى فنان بلا عمق، وانهمك في أعمال لا يمكن أن تُذكّر بمرحلته السابقة مع الماغوط أو حتى تصل إلى درجة ولو قريبة من مستواها. امتلك محمد الماغوط.. ناصية القول الجاد مع السخرية المرة، وامتلك تلك القدرة على التقاط الصور بنباهة وعمق...سواء ما كتبه للمسرح أو السينما أو ما كان من مقالاته الصحفية أو كشاعر ساخر هازل متألم. وبانتهاء العلاقة بينهما بدا واضحاً أن صفحة كاملة من مسيرة دريد لحام الفنية قد طويت. مع الماغوط انتقل دريد لحام من "غوار الطوشة" وصناعة المقالب في حمام الهنا، إلى ما هو أبعد وأوسع وأعمق. صار دريد لحام حاملاً لمقولات نقدية سياسية واجتماعية وثقافية. وفي الثنائيات المبدعة أيضا لا يمكن تجاوز تجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم والملحن والمطرب والمؤدي الشيخ إمام. بهذا الثنائي عُرفت الأغنية السياسية عربيا لأول مرة، ولاقت حضورا مذهلا، حتى أصبحت استعادتها اليوم مغرية لأجيال جديدة لم تعش تلك المرحلة، إلا أنها تشعر بذات التوهج الذي حرك ذات يوم ذلك الثنائي. جاء التحول النوعي في أعمال الشيخ إمام بعد هزيمة يونيو 67، بيئة الهزيمة كانت حاضرة في مشهد الثنائي احمد فؤاد نجم والشيخ إمام. ولم يكن لأشعار نجم أن تجد طريقها إلى قلوب الجماهير دون أن يقدم لها ملحن كبير يغرف من تراث عميق. وإن سادت نغمة السخرية وألم الهزيمة بعض أغانيها في تلك المرحلة "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا - يا محلى رجعة ضباطنا من خط النار"، و"وقعت من الجوع ومن الراحة - البقرة السمرا النطاحة".. إلا أنها سرعان ما اختفت تلك النغمة الساخرة وحلت مكانها نغمة أخرى مليئة بالاعتزاز بمصر "مصر يا امة يا بهية - يا أم طرحة وجلابية". ويمكن أن يقال الكثير عن الثنائيات التي قدمت أعمالا رائعة مازالت تستعاد كشاهد على عمق تجربة وجمال عطائها، وان لم ترتبط بذات الدرجة، أو تبقى في حيز المشهد أمدا معتبرا كما في حالات أخرى تستدعيها الذاكرة بمجرد أن يمر وهج الثنائيات التي تفقد جزءاً كبيراً من حضورها بمجرد تفككها أو رحيل احد أطرافها. هناك ثنائية أخرى لها دور مهم وواضح الأبعاد في أعمال تلك الثنائيات، وهي مرتبطة بالجو العام الذي انطلقت منه تلك الأعمال. فإذا كان الحلم العربي حاضرا عند الرحابنة - فيروز، فالوجع والهزيمة ظاهرة في ثنائية نجم - الشيخ إمام. لا يمكن قراءة مشهد اليوم المتعثر في محاولة فهم بيئة تتخلق فيها القامات دون العودة لمسار تاريخي يحمل عاملين مهمين. الحلم الذي يتحرك في دائرته مبدع والبيئة المحتفية بالإبداع، سواء كان فرديا أو ثنائيا، لتتوهج تلك القامات معلنة عن نفسها. وإلا فما المشهد اليوم سوى مشهد تراجع مذهل وقلق مستحكم وشيوع لقيم استهلاكية تتعامل مع الإبداع مثل ما تتعامل مع أية سلعة جديدة بمجرد استخدامها تفقد أهميتها أو قيمتها. والمقارنة بين الأعمال التي مازالت تشكل حضورا أدبيا وفنيا وفكريا في العقود الماضية وبين ما يقدم اليوم يختصر تلك المسافة، بين الأعمال الإبداعية الجادة التي مازالت تحتفظ بلونها ونكهتها وحضورها وقيمتها وبين الأعمال الاستهلاكية والعابرة.