السحابة الكروية التي تطبق على العالم أداة لعوب ومراوغة ومتفلتة تتقاذفها الأقدام والأحلام الكبيرة ويرقبهم العالم بصمت وتبتل ، هذا الاستغراق في المتابعة مع الحرص والولاء يجعلني أشعر بالغيرة بل الحسد ليس من الكرة بل على تجربة الحماس ومتعة الاستغراق والترقب واللهفة وجميع المشاعر العارمة التي أعجز عن المرور بها أو استثارتها في داخلي بينما تختطف ذكور المنزل حولي ، أضع على أذنيّ سماعات صغيرة لاغلاقهما وحمايتهما من الضوضاء وأحاول التطفل للمشاركة في مهرجانهم الحافل ، وتتبع جدول المباريات المعلق ، والمتكأ الوثير الذي جهزوه لمتابعة المغوية ، ودعوة من يشاركهم متابعة احتدام الأقدام ولهاثهم حولها كحلم عزيز وصعب المنال . الكرة تستفز جميع كوامن الصياد القديم داخل الذكور، وتستدعي الأسلاف الذين يطاردون الفريسة المراوغة المذعورة ، والماهر هو الذي يخاتلها ويتربص بها ليفوز بها دونا عن الجميع ، يستعيدون تلك النشوة القديمة في الحفاظ عليها بين أقدامهم وأخذها إلى هدف آمن أو إلى أفواه تنتظر ، جميع ذلك الحماس الذي كان يستيقظ في مواجهة الجوع والموت وتحديات العيش داخل الصياد القديم ، هاهي تعود متحضرة متمدنة على شكل كرة مطاطية تتقن دور الفريسة المغوية . لم يمنح الإغريق للحضارة البشرية فقط الفلسفة ونواحي كثيرة من التمدن ، بل أيضا مرروا للإنسانية إجلالهم وتقديرهم للرياضة وتقديس الجسد الرياضي ، ارتقوا بجميع مشاعر الحرب والمنافسة والغضب ، وجميع الغرائز الكامنة لدى البشر للفوز والاستئثار بالغنائم وسفك دماء الخصم ، نقلوا البشرية إلى مستوى أرقى وأسمى عبر الرياضة ، الرياضة التي تسمو بتلك المشاعر وتحولها إلى منافسة يصافح بها البشر بعضهم بعضا في بدايتها وأحيانا في نهايتها ، إنها تمارس نفس الدور الذي يقوم به المسرح بالمفهوم الأرسطي حيث يحدث نوع من التماهي بين المشاهدين والأبطال ، فيتحقق عبرهم جميع الطموحات والآمال ونشوة النصر والقتال المغيبة خلف قيود المدنية . لذا أصبحت الكرة جزءا من العنفوان القومي والزهو الوطني ، ومن هنا لن نستغرب بتنصيب نجوم الكرة كرموز وطنية يستلهمها الشباب ، الكرة المغوية هي التي تهذب وتلطف وتمدن هرمون التستستورن القتالي لدى الأكباش ، وتحوله إلى لعبة جميلة حماسية براقة يرقبها العالم باكمله . إسرائيل حينما ضربت لبنان عام 2006 ضربته بعد يومين فقط من انتهاء كأس العالم ، هي تعلم بأن العيون معلقة والأشداق فاغرة خلف المغوية ، ولن يستطيع استعراضها العسكري المتوحش (الذي كانت تريد أن تؤدب إيران من خلاله) أن ينال جميع الزخم الإعلامي المطلوب ، هي تعلم أنه مهما بلغ استعراضها العسكري من التوحش والهمجية لكنه لن يستقطب الأضواء كلها من المغوية . طوفان إعلامي يكتسح الفضائيات والصحف حتى مواقع الإنترنت الكبرى ارتدت البزة الكروية ، طوبى لمن يستمتع بها وتستحث كل مشاعر الحماس والنشوة في أعماقه ، أما من لاتحقق له المغوية أي دهشة أو متعة فليس له سوى أن يحمي أذنيه ويسدهما، ويدس رأسه في كتاب إلى أن تنقشع عن العالم السحابة الكروية..